كما الزوج المخدوع، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، أخيرا، أن المخابرات الأميركية “أساءت تقدير الخطر الذي يمثله تنظيم “داعش” في سورية”! حديث أوباما جاء غداة انطلاق ضربات التحالف الدولي لمواقع “داعش” في سورية قبل أيام، وفي سياق تبريره الحرب للرأي العام الأميركي. كما أنه يجيء بعد أكثر من ثلاث سنوات على بدء الأزمة السورية التي غيرت وجه المنطقة!
ما يستشف من تصريح أوباما هو نوع من التقليل من قدرات المخابرات الأميركية، في أزمة خطيرة كالأزمة السورية، أخذت أبعادا دولية وإقليمية واسعة ومتشعبة، وحفرت تطوراتها عميقا في وجه الشرق الأوسط. ولا نعتقد أن أوباما يمكن أن يصدق نفسه وهو يقدم مثل هذا العذر والتبرير لتضخم “داعش” وأخواته، ولا لتعقد أزمات المنطقة وكوارثها التي جرّتها السياسة الأميركية.
لن يحاسب أحد أوباما، ولا دولته العظمى، اليوم، وهو يزعم أن المشكلة الأمنية والسياسية الخطيرة في سورية والعراق والشرق الأوسط، ناتجة فقط عن سوء تقدير مخابراته، التي تملك ميزانية تفوق ميزانيات دول، وترتبط بشبكة علاقات كبيرة ومتشعبة مع أجهزة ودول، بما يمكنه من التصنت على أغلب سكان العالم! حتى نحن، المنكوبين في هذا الشرق، لن نحاسبه، وغير معنيين بمحاسبته على سوء تقدير مخابراته، لكننا نهمس في أذنه اليوم أن لا يعود علينا بعد سنتين، مع اقتراب انتهاء ولايته الثانية، ليعتذر مجددا عن سوء تقديرات أو غيره.
قصة “داعش” ونمو التطرف في بلادنا ومنطقتنا، لم يكن جراء سوء تقدير للمخابرات الأميركية أو غيرها، بل هو جراء مقامرات سياسية وأمنية وعسكرية غبية وجشعة ومجرمة من قبل ساسة أميركا، في اشتباكها مع أزمات المنطقة وقضاياها. وإن تحدثنا عن العراق وسورية، باعتبارهما اليوم مهد العنف والتطرف والإرهاب و”داعش”، فهذا الوضع لم ينتج عن سوء تقدير، بل عن سياسات رعناء وعدوانية وغبية، أشبه بمقامرات مخمور في نادي قمار بلاس فيغاس.
احتلال العراق في العام 2003 لم يكن سوء تقدير. وتفتيت هذا البلد ونبش كل ثارات التاريخ وعقده بين طوائفه، والسماح بعمليات الإقصاء والتهميش لمكونات أساسية فيه، لم تكن سوء تقدير أميركي، بل مقامرات عدوانية فتحت باب كل الشرور على المنطقة وشعوبها.
أما سورية، فقد رفع منذ اليوم الأول شعار دعم ثورتها الشعبية ضد النظام الدموي، مدخلا لإنتاج أنظمة وكيانات وتنظيمات أكثر دموية وظلامية. واستخدم هذا الشعار من أميركا وحلفاء لها، مدخلا لتسليح وعسكرة انتفاضة شعبية، وإمدادها بـ”كنوز سليمان” وبآلاف المقاتلين وعشرات التنظيمات، وضرب بنية الدولة السورية واستقرار المنطقة في سبيل التخلص من نظام الأسد وتحالفاته الإقليمية، في صراع لا يمكن وصفه إلا بمقامرة حمقاء ورعناء وإجرامية بحق الشعب السوري وشعوب المنطقة.
سوء التقدير الأميركي في الأزمة السورية، هو في الرهان على الحسم العسكري للأزمة، حتى لو تم الاستعانة بالقاعدة و”داعش” و”النصرة”، وحتى لو دمرت سورية عن بكرة أبيها، تماما كما باتت حال ليبيا اليوم، التي يمكن وصفها بأي وصف إلا أنها دولة ومجتمع. سوء التقدير الأميركي هو في رفض دعم الوصول إلى حلول سياسية للأزمة السورية، تنقذ هذا الشعب المسكين من موجات القتل والتقسيم والتهجير والدمار، وذلك لأن هناك من قامر وراهن بأنّ منح الحل العسكري للأزمة السورية وقتا، وقالوا أحيانا بضعة أشهر فقط، مع فتح باب الإمداد بالمال والرجال والمتطرفين، سينهي نظام الأسد، وكل تحالفاته الإقليمية والدولية، ثم لتذهب سورية والشعب السوري إلى الجحيم!
إذا قدر لأوباما أن يسمع صوت المنطقة، بعد أن “طنش” عشرات آلاف التصريحات و”النصائح” لساسة وخبراء من المنطقة ومن الولايات المتحدة ذاتها على مدى السنوات الثلاث الماضية، فإن النصيحة و”التقدير الأنسب” هو الضغط بقوة أميركا لإنجاز حل سياسي للأزمة السورية، ولتصويب الاختلالات العميقة في المعادلة السياسية العراقية. هكذا لن تحتاج بعد عامين للاعتذار مرة أخرى عن سوء تقدير مخابراتك!
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.