فضيحة التعذيب الذي تمارسه أجهزة المخابرات الأميركية والتي كشف بعضها أو جوانب منها تقرير للجنة من الكونجرس الأميركي، (يعرف التقرير باسم “برنامج وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) للترحيل القسري والاحتجاز والاستجواب”، يقع في 6 آلاف صفحة، نشر منه ملخص بـ480 صفحة، وتم بعد مراجعة 6 ملايين وثيقة عن أنشطة البرنامج!) لم تتوقف عند حدودها الأميركية، بل تعدتها إلى كشف تعاون صارخ ومهين من دول أوروبية، تدعي مثل الولايات المتحدة دفاعها عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية. وتتبجح ربما أكثر منها بذلك، ولكن الفضيحة هذه عرّت الجميع وبينت كذبهم وخداعهم لأنفسهم وشعوبهم أولا ومن بعد لشعوب العالم، وللمغرر بهم بسمعة تلك الحكومات والأجهزة. ورغم حجم الفضيحة فثمة من دافع عنها ولم يرغب بتعريتها، أو دعا إلى التستر عليها وتبريرها بحجج مخادعة ومضللة أيضا، وتحت تسميات كاذبة، من باب حماية الأمن القومي وغيرها من الشعارات البراقة التي تستخدم للتغطية على تلك الفضيحة وأخواتها من الجرائم الصارخة وفق القانون المحلي والدولي والأعراف والمواثيق والاتفاقيات الكثيرة الموقع عليها أو المتفق معها.
المفارقة أن أغلب هذه الحكومات موقعة على اتفاقيات حظر التعذيب ومنعه وينبغي الالتزام بها أكثر من غيرها، لكنها تقلد الولايات المتحدة الأميركية التي تجاوزتها أو داست على توقيعها وموافقتها واستغلالها حجة ضد غيرها في كثير من الأحيان، بل واستخدمت معتقلات خارج أرضها، ومارست فيها انتهاكات صارخة. ولعل بشاعتها التي عرّتها صور التعذيب في معتقلات أبو غريب وباجرام وجوانتانامو، نماذج غير كافية وليست معبرة بشكل كامل عن العقلية التي أدارتها وعن الضمير الذي وقف وراءها وصمت عنها وحاول تمريرها بهدوء خشية من ردود الفعل عليها من أهالي ضحاياها أو من غيرهم بعد حين. وكانت تلك الصور والمشاهدات أولى الصرخات الإنسانية ضد التعذيب والسجون والسجانين، وكانت الإدارات الأميركية وأجهزتها هي التي قادتها وتديرها وتسمح لها وتسكت عليها لحد اليوم. مما سهل جرائم الإفلات من العقاب القانوني والأخلاقي والإنساني. ووضحت للعالم من هي تلك الجهات التي كانت تمارس وتكذب وتستهين وتغلف نفسها بغير ما هي طبيعتها الوحشية وعدوانها السافر.
لم تكتف حكومات دول أوروبية في التعاون والتنسيق بينها وبين الإدارات الأميركية في قضايا تنتهك حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات العامة أيضا، كالتجسس على المعلومات الشخصية والخاصة للأفراد أو للمؤسسات وكذلك التنصت ومراقبة الهواتف والبريد العادي والإلكتروني والإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي وغيرها من التصرفات المخلة بأبسط الحقوق المدنية للمواطن الأوروبي، والتي حاز عليها بعد نضالات طويلة وتضحيات غير قليلة. ومعلوم أن الرضا بما حصل يفتح شهية التنازلات أمام غيرها من الممارسات والفضائح والفظائع. لم تكتفِ هذه الحكومات بكل هذه الارتكابات غير القانونية، بل تعاونت مع الإدارات الأميركية كما هي الفضيحة في التعذيب وسياسات الإدارات الأميركية وأجهزتها المخابراتية. وثبتت الفضيحة حقائق صادمة عن هذه الحكومات وخداعها في حملاتها الانتخابية أو في إداراتها للحكم في بلدانها وشعاراتها المصدرة للعالم. حيث أكدت معلومات موثقة وإثباتات كاملة أن دولا أوروبية ساعدت الأجهزة المخابراتية الأميركية، ومنها وكالة المخابرات الأميركية، في تنفيذ عمليات خطف، وتجسس وتسهيلات أخرى، فيما استضافت دول أخرى ما سمي بنقاط سوداء على خريطة النفوذ الأميركية، كانت معتقلات أو غرف تعذيب على أراضيها. كشف بعضها، المحقق الخاص لمجلس أوروبا ديك مارتي، عام 2007، في تصريح له، أن “هناك أدلة كافية للقول إن سجونا أميركية سرية كانت موجودة في بولندا ورومانيا”. وأضاف أن “نقل المشتبه فيهم ممن خطفتهم فرق سي آي إيه في أوروبا بصورة غير قانونية يشكل انتهاكا هائلا وممنهجا لحقوق الإنسان”. وتكتّم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، طوال السنوات الماضية، على الأدوار والتواطؤ والانتهاكات المتبادلة. لكن بعض الحقائق والصور وصرخات الضحايا عرفت وأعلنت وتسربت وانتشرت بفضل عمل دؤوب لمنظمات أهلية ونشطاء حقوقيين ومدافعين فعلا عن الحقوق والحريات وبعض وسائل إعلام والبرلمان الأوروبي ومجلس أوروبا. كما كشفت النقاط السوداء وقائع انتشار معتقلات رسمية مخفية في الغابات والجبال في الدول الأوروبية، وأعمالا تمت في طائرات وسفن وبواخر أوروبية استخدم فيها البرنامج أو هي لخدمة الأجهزة الأمنية الأميركية وبأوامر منها. ضمت قائمة الدول الأوروبية التي تواطأت وتعاونت بأشكال غير قانونية، إضافة إلى بولندا ورومانيا، ليتوانيا وبريطانيا وألمانيا وأسبانيا والبرتغال وإيطاليا وبلجيكا والدنمارك وفنلندا وأيسلندا والنمسا وجمهورية التشيك واليونان وقبرص وكرواتيا والبوسنة وألبانيا، وفرنسا والسويد.
أدت ضغوط الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان والحريات العامة ومحاولاتها لكشف تلك الحقائق ومنع الاستمرار فيها ومحاكمة القائمين بها، دورا في إجبار أغلبية الدول الأوروبية لإجراء تحقيق في دور الأجهزة والمسؤولين الذين ساعدوا “سي آي إيه” في جرائمها. وتميزت السويد، بشكل منفرد، في دفع تعويض لضحايا هذا التواطؤ، وقضاء إيطاليا في إدانة مسؤولين لتورطهم في برنامج المخابرات الأميركية، واعتراف رئيس بولندي سابق بتعاون بلاده مع البرنامج وفضح بعض النقاط السوداء. هذه الردود الوحيدة إلى جانب نشاطات محدودة للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، حيث أوضحت في تموز/ يوليو الماضي تعاون الحكومة البولندية مع السي آي إيه بإدارة سجن سري تم بداخله تعذيب اثنين ممن يشتبه في كونهم إرهابيين. وما زالت تحقق في دعاوى تواجه دولا أوروبية، منها ليتوانيا ورومانيا، حول ضلوعها في تلك العمليات الإجرامية وصمتها عليها.
تعترف إدارات الولايات المتحدة الأميركية بقيامها في هذه الأعمال الوحشية، ولا ينكرها المسؤولون عن الأجهزة المخابراتية الأميركية. ولم يعتذروا عنها بل يدافعون عنها ويبررونها، بأنها تدور لحماية الأمن والغرب بأسره. هذه الفضيحة الأميركية والاعترافات بالوقائع والحقائق تدين كل من مارسها وقررها وأدارها، ويأتي التعاون الأوروبي فيها، عار مضاف، يقتضي منع الصمت عليه، والمطالبة بالمحاكمة وتطبيق القانون، وعدم الإفلات من تحمل المسؤولية الإنسانية والأخلاقية والقانونية.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.