In International Policy: Trends in American Middle East Policy

<--

استرعى اهتمامي وأنا أُراجع العدد الجديد من مجلة الدراسات الفلسطينية الصادر للتّو مقالة مترجمة كاتبها د. عمر تاشبينار، وهو أستاذ في جامعة جون هوبكنجز وباحث في معهد بروكنجز في أميركا، المقالة التي جاءت تحت عنوان «الاستدارة الأميركية من الشرق الأوسط نحو منطقة آسيا – الباسيفيك» مهمة وجدلّية في آن. فهي، من ناحية، تبحث في دوافع وآثار تحول اهتمام السياسة الخارجية الأميركية نحو منطقة المحيط الهادي، نظراً لتنامي مكانة ودور الصين حالياً ومستقبلياً في الصراع الدائر حول الهيمنة الدولية.

لا يوجد جديد أو مثير في هذا الجانب من التحليل، فقد أضحى معلوماً منذ حين، ووفقاً لما أصبح يُعرف بـ «مبدأ أوباما»، أن الإدارة الأميركية الحالية تُعطي أولوية تركيزها الإستراتيجي في رؤيتها وسياستها الخارجية لصدّ الصين واحتواء مكانتها الإقليمية والدولية المتصاعدة.

وبالتأكيد، فإن هذا التوجه الأميركي له ما يبرّره، إذ أن الصين الصاعدة اقتصادياً وسياسياً أصبحت تُشكّل حالياً المنافس الأساسي الذي يُهدّد توحّد الهيمنة الأميركية على الصعيد الدولي، بالتالي، يُتوقّع أن تقوم واشنطن بكل ما في وسعها، وبالأخص ديبلوماسياً وسياسياً، كي تكبح وتحدّ هذه الإمكانية الصينية.

أما المثير في المقالة فيأتي في ناحيتها الثانية، والتي يؤكد فيها الكاتب في استخلاصه على ضرورة أن يتم فك ارتباط أميركا مع منطقة الشرق الأوسط حتى تتمكن من النجاح في «الاستدارة» باتجاه آسيا – الباسيفك.

في هذا السياق يورد تاشبينار ثلاثة أسباب يظّنها كفيلة وكافية لبدء الانسحاب الأميركي التدريجي، والذي يعتقد أنه بدأ فعلاً، من المنطقة. الأول، هو تنامي عدم رغبة الرأي العام الأميركي في أي نوع من التدخل في منطقة الشرق الأوسط.

والثاني، ارتفاع الكلفة الاقتصادية للتدخل والتموضع العسكري في المنطقة، في حين تعاني أميركا من أزمة اقتصادية لم تتعافى منها بعد.

وثالثاً، تنامي الشعور الأمريكي بالاستقلال المحلي في مجال الطاقة، بفضل ثورة الغاز والنفط الصخري، ما يعني إمكانية تقليص، وحتى إنهاء، الاعتمادية الأميركية على النفط العربي.

لقد أصبح موضوع تحوّل اهتمام أميركا عن منطقة الشرق الأوسط افتراضاً رائجاً، وخصوصاً في أدبيات السياسة الدولية، أما الدلالة على ذلك فهو تخبّط وعدم التدخل الفعال للسياسة الأميركية تجاه قضايا أساسية في المنطقة، تجاه ما يجري في إيران والعراق وسورية وليبيا واليمن ومصر ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.

صحيح أن واشنطن تتخبط في سياستها تجاه قضايا معقدّة تجري في المنطقة، ولكن هل الافتراض صحيح بأن ذلك معناه انفكاك أميركا عن المنطقة وتحوّل اهتمامها بالكامل إلى منطقة المحيط الهادي؟ وبصيغة أكثر تحديداً ومباشرةً: هل بإمكان الولايات المتحدة التخلي عن المنطقة والانسحاب منها باتجاه منطقة المحيط الهادي؟

من الواضح أن هناك «استدارة» في السياسة الخارجية الأميركية نحو منطقة المحيط الهادي، ومن الواضح أيضاً أن الإدارة الأميركية الحالية والرأي العام الأميركي بشكل عام، لا تريد التورط في تدخل عسكري مباشر (بمعنى إرسال قوات محاربة) في منطقة الشرق الأوسط.

ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الولايات المتحدة «ستحزّم أمتعتها» وتغادر هذه المنطقة، فحتى لو أرادت، فهي لا تستطيع، لذلك، فإن الاستدارة عن المنطقة لا تعني على الإطلاق الانفكاك عنها. وما يدعني لهذا الاستنتاج ثلاثة عوامل أساسية:

أولاً، أن منطقة الشرق الأوسط منطقة حيوية وإستراتيجية دولياً، فهي تتوسط العالم، ومعبر أساسي للتجارة الدولية وللمواصلات والاتصالات، وبها أكبر مخزون للنفط، وهي منطقة غير مستقرة داخلياً، وعليها صراعات خارجية، وبما أن الولايات المتحدة هي المتفرّدة حالياً على رأس النظام الدولي، وتحاول الحفاظ على مكانتها أمام تقدّم دول كبرى أخرى، أهمها الصين، فإن من الضروري لها، بل من واجبها، الحفاظ على وجودها وتدخلها في هذه المنطقة الحيوية، فاستمرار هذا الوجود ضروري ليس فقط لحماية مصالحها، وإنما أيضاً مصالح حلفائها التقليديين، وخاصةً الأوروبيين واليابانيين.

كما وأن استمرار هيمنتها على المنطقة ضروري وأساسي في مواجهتها مع الصين، والآخرين من المنافسين، فانفكاك أميركي كامل عن المنطقة يفسح المجال لغيرها لملء الفراغ، من منافسيها أو حتى من الحلفاء، ودعنا نتصوّر أن تصبح الصين، مثلاً، وهي مَن تحاول أميركا كبح تمدّد قوتها، هي المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، ستخسر أميركا كثيراً إن حصل ذلك.

ثانياً، أن لأميركا مصالح حيوية في المنطقة لا يُعقل أن تتخلى بذاتها عنها. ويكفي أن نذكر أمرين هنا، الأول هو النفط الذي تريد أميركا الحفاظ على تدفقه ليس فقط لنفسها، وإنما لحلفائها الذين هم أكثر اعتماديةً عليه منها. ويجدر هنا ذكر أن التقديرات بقرب استقلالية أميركا النفطية وتقلّص اعتمادها على النفط العربي مبالغ فيها بشكل كبير.

صحيح أن هناك اكتشافات أميركية جديدة في مجال الطاقة، وخاصةً النفط الصخري، ولكن كلفة إنتاج النفط من هذا الصخر مرتفعة جداً بالقياس إلى سعر البرميل المستورد من منطقة الخليج العربي، لذلك ستستمر الولايات المتحدة في حاجتها لاستيراد هذا النفط.

أما المصلحة الأميركية الثانية فهي الحفاظ على استمرارية تدفق التجارة الدولية عبر منطقة الشرق الأوسط، والتي تضم أهم المضائق المائية دولياً. فعدا عن أن المنطقة بذاتها تشكّل سوقاً استهلاكية هامة للسلع الأميركية، والغربية عموماً، فإن استمرار الهيمنة الأميركية على المنطقة يضمن لأميركا استمرار هيمنتها على مقدّرات التجارة الدولية، مالياً واستثمارياً.

وفيما يتعلق بالعامل الثالث وراء اعتقادي بعدم صحة الافتراض أن أميركا تغادر منطقة الشرق الأوسط فهو وجود حلفاء لها في المنطقة عليها أن ترعى وجودهم ومصالحهم.

طبعاً تقف إسرائيل على رأس قائمة هؤلاء الحلفاء، وضمان وجودها وأمنها يقف على رأس الأولويات الأميركية، فإسرائيل تعتبر شأناً داخلياً، وليس شأن سياسة خارجية، لأميركا، وبالتالي، فإن استمرار الوجود الأميركي في المنطقة يُعتبر أمراً ضرورياً وحيوياً لحماية إسرائيل وتأمين مصالحها. قائمة الحلفاء بعد ذلك تطول وتشمل الكثير من الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج العربي ومصر والأردن.

إن الحفاظ على وجود أمن هذه الدول حيوي لواشنطن، إذ إن انهيار أي منها سيخلخل أمن المنطقة ويؤثر سلباً على المصالح الأميركية فيها، ومن هنا يأتي اهتمام أميركا بمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.

قد تكون واشنطن، تحت إدارة الرئيس اوباما، قامت بتحديد أدقّ لأولويات تحركها الخارجي، ومارست «ضبط نفس» أعلى مما مارسته إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن.

هذا ما قد يفسر إحجام الإدارة الحالية عن شن الحملات العسكرية، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط بعد إنهاء التورط المسلح في الحرب على العراق، وهو ما جعل البعض يقفز إلى الاستنتاج المتسرع بأن واشنطن تخلّت عن المنطقة.

هذا الاستنتاج الخاطئ هو ما أثار حفيظة الكثيرين في المنطقة، وقاد إلى ازدياد التنافس والصراع الداخلي الدائر حالياً.

يجب أن لا يغيب في هذا الشأن عن البال إمكانية أن يكون لهذا الاستنتاج الذي يُروَّج له في الأوساط السياسية والأكاديمية الأميركية غرض تخويف حلفاء في المنطقة ودفعهم باتجاه تحالف أوثق مع واشنطن.

يتلخص الأمر في النهاية كالتالي: التوجه الأميركي باتجاه منطقة آسيا- باسيفيك لا يعني تخلي أميركا عن منطقة الشرق الأوسط.

هذه منطقة حيوية للاحتياجات الأميركية كافة، وعلى صُناع السياسة والسياسات في المنطقة أخذ هذا الأمر بالاعتبار عند صياغة توجهاتهم وحساب خياراتهم.

About this publication