الجدل حول علم الكونفيدرالية، الذى اتخذته ولايات الجنوب الرافضة لانهاء العبودية شعارا لها خلال الحرب الأهلية الأمريكية فى الفترة ما بين 1861-1865،جدلا متكررا ولكنه يأتى هذه المرة كرافد لسؤال أكبر يؤرق المجتمع الأمريكى منذ فترة وهو :هل مازالت أمريكا رهينة خطيئتها الأولى والكبرى..العبودية؟
الجدل الذى يجتاح ولاية ساوث كارولينا حاليا حول ضرورة نزع علم معركة الكونفيدرالية من أمام مبنى المجلس التشريعى للولاية ،والذى امتد لست ولايات أخرى فى الجنوب، فجرته مذبحة كنيسة تشارلستون التى راح ضحيتها 9 من السود على يد شاب أبيض كان دائم التلويح بعلم الكونفيدرالية فى اثناء بثه رسائل عنصرية على موقعه الشخصى على الانترنت.ويكتسب الجدل فى ساوث كارولينا أهمية خاصة كونها مهد الحرب الأهلية كما أن مصمم علم الكونفيرالية ،ويليام ميلز” هو أحد ابنائها وللمفارقة كان عمدة تشارلستون موقع المذبحة الأخيرة!
أما الجدل بوجه عام فينبع من التناقض الكبير فى النظرة للعلم وما يمثله .تلك الرقعة الحمراء بخطيها الزرقاوين المتقاطعين (فيما يعرف بصليب القديس اندراوس) ووسطهما النجوم البيضاء (التى تجسد ولايات اتحاد الجنوب) ينظر لها غالبية البيض على أنها رمز للكبرياء والكرامة وشاهد على نضال الأجداد .أما السود ،وبعض البيض، فينظرون للعلم بوصفه رمزا للعبودية والتطرف والعنصرية،لا سيما أن أكثر من 500 من التنظيمات العنصرية المعادية للسود ،وأشهرها منظمة الكوكولاس كلان ،تتخذه شعارا لها.
المؤيدون للإبقاء على العلم يدافعون عن موقفهم بالاصرار على أن العلم جزء من التاريخ لا يمكن انكاره وانه تجسيد ل”كبرياء الجنوب” وتكريم لمئات الالاف ممن راحوا ضحية تلبية نداء الواجب .وكما يقول أحد مواطنى ساوث كارولينا البيض “العلم رمز للعائلة ولشجاعة أجدادى الذين دافعوا عن الولاية ضد الغزو وتحدوا الحكومة المركزية.”
على الجانب الأخر يؤكد المطالبون بازالة علم الكونفيدرالية من الجهات الحكومية فى كثير من ولايات الجنوب أن استمرار رفعه يرسخ الكراهية فى النفوس حيث إنه اساءة بالغة للسود.وفى حين أنهم يعترفون بأنه جزء من التاريخ لا يمكن محوه إلا أن مكانه الطبيعى هو المتحف أو كتب التاريخ.ولخص فيليب جن رئيس مجلس نواب مسيسيبى هذه الفكرة بقوله”يجب أن نتذكر دائما ماضينا ولكن لا يعنى ذلك أن نتركه يحدد هويتنا”.تجدر الاشارة هنا إلى أن ولاية مسيسيبى كانت قد أجرت استفتاء على الابقاء على علم الكونفيدرالية فى عام 2001 اسفر عن تصويت ثلثى مواطنى الولاية لصالح الابقاء على العلم.
ولكن السؤال الذى يفرض نفسه وسط هذا الجدل هل نزع العلم كافيا للقضاء على العنصرية المتجذرة فى الولايات المتحدة على حد وصف الرئيس الأمريكى باراك أوباما والذى وصل لأبعد من ذلك بقوله أن أرث العبودية والتمييز لا يزال جزءا من الـ «دى أن ايه» الخاص بالشعب الأمريكى .
والاجابة البسيطة و المتوقعة لهذا السؤال هى النفى.
ففى حين أنه لا يمكن انكار أن المجتمع الأمريكى قد قطع شوطا طويلا للابتعاد عن ماضيه العنصرى والذى توج بانتخاب أول رئيس أسود فى 2008 الا أن الواقع يشير إلى أن اشباح الماضى لا تزال تطارد الحاضروتهدد المستقبل .. وهذا الواقع الأليم ،المتمثل فى تعرض المواطنين السود بصورة يومية لألوان متنوعة من الظلم وعدم المساواة واساليب متطورة من التمييز العنصرى لن يتغير بمجرد اخفاء العلم الكونفيدرالى بعيد عن الأعين.
فالاحصاءات الرسمية تشير إلى أن حال المواطنين السود فى تدهور مستمر رغم وجود واحد منهم فى سدة الرئاسة .فالفجوة فى الدخل بين البيض والسود فى اطراد،وهناك ارتفاع واضح فى معدلات البطالة بين السود.. أما الأخطر، والذى ظهر جليا فى حوادث متكررة خلال الشهور الماضية، هو أن احتمال تعرض مواطن اسود لاطلاق الرصاص من جانب الشرطة يفوق نفس الاحتمال بالنسبة للمواطن الأبيض بنحو 21 مرة!
ووفقا لتقرير صادر عن مركز أبحاث بيو يعتقد سبعين فى المائة من المواطنين السود أنهم أكثر عرضة للظلم من جانب الشرطة .كما كشف التقرير أن أكثر من نصف المواطنين السود اعترفوا بتعرضهم للتمييز فى المحاكم وأماكن العمل والمدارس والمحال والمطاعم.
وكان نعوم تشومسكى الخبير اللغوى والمفكر الأمريكى المعروف قد لفت النظر قبل سنوات إلى أن العنصرية متأصلة فى “مؤسسات الحياة الامريكية” وأن ما يساعد على استمرارها وتمكينها هو ما يصفه ب”التجاهل المتعمد للحقائق غير المريحة”.وأوضح تشومسكى ،فى حديث لموقع نيويورك تايمز على الانترنت، أن الوقائع القاسية للعنصرية الامريكية وكيفية عملها وتفاعلها نادرا ما يتم الاعتراف بها مما يؤدى إلى التغطية على الحقيقة وصناعة الوهم.
ويتفق مع تشومسكى الكثير من المحللين حيث يرون أن مظاهر العنصرية الفجة مثل الفصل بين البيض والسود فى الأماكن العامة واستخدام لفظ زنجى ربما تكون قد اختفت الا أن كراهية الآخر لاتزال تسكن القلوب والعقول .وبالتالى فان الخطب الرنانة حول الحرية والعدل والفرص المتساوية وتشريعات الحقوق المدنية ،مهما بلغ عددها ،لن تجدى نفعا فى محو العنصرية ،ولن يحسن نزع علم الكونفيدرالية الظروف المعيشية للسود أو يغير نظرة المجتمع لهم.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.