كيف تبدو مقاربة الولايات المتحدة للأزمة السورية؟ وما الذي مثله الموقف الأميركي في مؤتمر فيينا-2؟ وهل ستمثل هجمات باريس حافزا لتسريع التسوية السياسية في سوريا؟
لعل الكثير من المحللين في الولايات المتحدة وخارجها يرون أن السياسة الأميركية في سوريا عبارة عن سلسلة إجراءات تتغير في الغالب بحكم تطورات ظرفية، ذات صلة بالأزمة السورية، أو بالفاعلين الأساسيين فيها.
وهناك دراسة لباحث أميركي تتبعت زمنيا سياسة البيت الأبيض تجاه سوريا منذ مارس/آذار 2011، وانتهت للقول بهذه النتيجة. وهناك أيضا مقالات عديدة في الصحافة الأميركية بدت في ذات المنحى ونفس الاستنتاج.
والسؤال الذي يُمكن إثارته هنا هو: هل ارتكزت السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية إلى “دبلوماسية مقطعية”؟ هناك بُعدان لهذه المقولة/ الإشكالية. الأول تقني، والثاني سياسي.
في المقاربة التقنية (أو المنهجية العامة)، يُمكن للباحث أو المحلل أن ينتهي للقول بالدبلوماسية المقطعية.
“لعل الكثير من المحللين في الولايات المتحدة وخارجها يرون أن السياسة الأميركية في سوريا عبارة عن سلسلة إجراءات تتغير في الغالب بحكم تطورات ظرفية، ذات صلة بالأزمة السورية، أو بالفاعلين الأساسيين “
وبالطبع، هذا مفهوم ملتبس في حد ذاته، فرض نفسه في وقت متأخر على الدراسات السياسية، وليس بالمقدور حتى اليوم الخروج بتعريف جامع له، أو دقيق في المجمل. ولكنه يشير عموما إلى أن هناك سلسلة غير متصلة (أو غير مترابطة) من الإجراءات تجاه مسألة أو حدث معين، وأن غياب هذا الترابط قد يكون مقصودا أو عفويا.
في السياق السياسي، يبدو الأمر أكثر إشكالية وتحديا: فهل هناك في الأصل رؤية سياسية استندت إليها الدبلوماسية المقطعية، وتموضعت في إطارها؟ أم أنها دبلوماسية فرضت ذاتها كنتيجة لغياب هذه الرؤية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال لا تبدو سهلة، بأي حال من الأحوال، وقد تخالطها نزعة معيارية، أو اصطفاف سياسي أو أيديولوجي. ودعونا نقارب هذا الأمر على نحو مبدئي:
عندما أطلق الرئيس، باراك أوباما، حملته الانتخابية للوصول للبيت الأبيض لأول مرة، كان من أكثر المعارضين للحرب في العراق، ومن أكثر القائلين، في الوقت ذاته، بتعزيز القوة الأميركية في أفغانستان. وقد طبق أوباما رؤيته في العراق، وأنجز انسحابا كاملا للقوات في أواخر العام 2011.
وفي أفغانستان، قام بزيادة القوات (على شكل زيادتها في العراق عام 2007-2008) بهدف تعبيد الطريق أمام إستراتيجية خروج لم تكتمل مقوماتها حتى اليوم.
وبعد الانسحاب من العراق، طرح الرئيس أوباما رؤيته للتوجه نحو آسيا، ومنحها أولوية أمنية واقتصادية في الإستراتيجية الكونية للولايات المتحدة. وهنا، بدا البيت الأبيض وقد وضع الشرق الأوسط في مرتبة تالية غير تلك التي ظل عليها منذ حرب الخليج الثانية. وذلك على الرغم من كل التصريحات التي استهدفت طمأنة الحلفاء في المنطقة.
هذه ليست انعزالية، بل إعادة توجيه للأوليات وإعادة تعريف تاريخي لها. وهذه تحديدا الخلفية المؤطرة للسياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية.
وعليه، يُمكن القول إننا بصدد دبلوماسية مقطعية، استندت إلى رؤية سياسية، تقول بالانخراط الحذر في منطقة خرجت من قلب الأولويات الأميركية.
والآن: ما هي طبيعة هذه الدبلوماسية المقطعية، التي انتهينا للقول بأنها تستند إلى رؤية سياسية محددة، أو مرجعية؟
بالتوازي مع طابعها المقطعي، بدت الدبلوماسية الأميركية تجاه الأزمة السورية ذات طبيعة تجريبية على نحو ملحوظ، جرى فيها اختبار كم كبير من الخيارات -الأمنية على وجه خاص- صعودا ونزولا، على مدى أكثر من أربعة أعوام.
وفي الأصل، فإن التجريبية تمثل جوهر أية دبلوماسية مقطعية.
وفي العموم، فإن الدبلوماسية الأميركية قد انتهت اليوم للتأكيد على أولوية المسار السياسي، والقول إنه لا أفق للمقاربات الأمنية للأزمة السورية، وإنه لا فرصة لنجاح هذه المقاربات مهما بلغ نطاقها. وهذه القناعة لم تكن سائدة لدى واشنطن في السنوات الأولى للأزمة.
وبالطبع، لم يكن انتهاء السياسة الأميركية للأخذ بهذا المنطق بالأمر العابر أو العفوي. بل جاء، بالتأكيد، كنتيجة لحسابات معقدة، أو -لنقُل- نتاجا لقراءة أخذت في حسابها المعطيات الثابتة والمتغيرة في الأزمة، وفضائها الجيوسياسي الأوسع مدى.
“الطيران الروسي يقصف من أجل تعبيد الطريق أمام تقدم جيش النظام، بينما تقصف الطائرات الأميركية بهدف ضرب جماعة مسلحة محددة، بغض النظر عما يحدث بعد ذلك. بل إن الحملة الأميركية تحاشت أن تفسر كدعم لجيش النظام، رغم استفادته منها بطريقة غير مباشرة”
إن تصريحات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في ختام اجتماعات مؤتمر فيينا-2، في الرابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، تُشير إلى تحول صريح، لا لبس فيه، في الموقف الأميركي، باتجاه تبنٍ واضح للحل السياسي دون شروط مسبقة.
وبموازاة هذه النتيجة التي انتهى إليها الأميركيون، هناك في وقتنا الراهن قضيتان رئيسيتان في فضاء المقاربة الأميركية للأزمة السورية: ترتبط الأولى بالحملة الجوية، دولية النطاق، التي تقودها واشنطن في كل من سوريا والعراق. وتتصل الثانية بحدود التفاهم الأميركي الروسي حول تدخل روسيا العسكري المفاجئ في الوضع السوري.
من الواضح أن واشنطن تعتبر الحملة الجوية التي تقودها طائراتها الحربية بمثابة البُعد الأهم في مقاربتها للوضعين السوري والعراقي. وقد تعزز هذا الشعور بعد استعادة القوات الكردية العراقية، في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، مدينة سنجار بدعم من الطيران الأميركي. والذي تزامن أيضا، على سبيل الصدفة، مع إعلان واشنطن استهدافها “جون اللندني”، بضربة جوية استهدفت سيارته بمدينة الرقة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن القصف الجوي لا يُمكن النظر إليه على أنه حل بذاته. أو لنقل إن هذا القصف لا يُمثل، على المستوى التحليلي، تعبيرا رديفا لمنطوق الحل. ونقصد به هنا حل الأزمة السورية. وربما نظر إليه الأميركيون على أنه جزء من الحل، في حين أن معارضيه، داخل الولايات المتحدة وخارجها، لا يرون فيه قوة دافعة بهذا الاتجاه.
وفي واقع الأمر، تبدو المقاربة العسكرية للولايات المتحدة بين ضغطين متقابلين: يقول الأول بتقليص التورط العسكري، ويدعو الثاني لزيادته.
وليس واضحا حتى الآن ما إذا كان بعض من هذه الضغوط سوف يعكس نفسه على خيارات واشنطن في سوريا. فالرئيس أوباما لا يزال متمسكا بقوله إنه لا يريد الانجرار إلى حرب هناك، ولا يُريد توريط القوات الأميركية في أي مهام قتالية.
وقد اتضح ذلك جزئيا من رفض البيت الأبيض، الدائم والمستمر، لفكرة إقامة منطقة حظر جوي فوق أي جزء من أجزاء القطر السوري. ومن الواضح أن المخططين العسكريين في البنتاغون يدركون تماما أن الذهاب نحو هذا الخيار يعني الذهاب إلى الحرب. وهو لا يعني غير ذلك أبدا.
ومن المنظور العسكري، فإن إقامة منطقة حظر جوي تعني منظومة واسعة من الأعمال الحربية، تتضمن، بين أمور أخرى، اشتباكا جويا، وقصفا لمنظومات الدفاع والرادار والمطارات العسكرية، وضرب القوات المتحركة على الأرض، وتعطيل منظومات القيادة والسيطرة، وشل شبكات الاتصال، والتشويش الإلكتروني والفضائي.
أليست هذه هي الحرب ذاتها؟
وفضلا عن ذلك، لا يخفى على أحد أن إقامة منطقة حظر جوي فوق دولة ما دون موافقتها تُعد انتهاكا صريحا لسيادتها الوطنية، كما يصنف فقهاء القانون الدولي ذلك على أنه نوع من الاحتلال.
إن تأكيد الرئيس أوباما على رفض الانزلاق نحو هذا الخيار يشير إلى أن مقولته بعدم الذهاب إلى الحرب مازالت ثابتة. ومن المفيد أن يتمسك بها حفاظا على الأمن الإقليمي، أو ما تبقى من هذا الأمن.
“إن التفجيرات الانتحارية في باريس قد أوضحت على نحو لا لبس فيه أن مفاعيل الأزمة السورية قد تجاوزت النطاق الإقليمي، وارتدت طابعا عالميا. وعليه، فإن التسوية السياسية الواقعية لهذه الأزمة لابد أن تكون مهمة عالمية، يتحرك من أجلها الجميع”
على مستوى احتمالات التفاهم الأميركي مع روسيا بشأن دورها العسكري في سوريا، من الواضح إننا بصدد قضية حساسة سياسيا ومعقدة تقنيا.
إن الطائرات الروسية والأميركية تلتقي بسماء الرقة ودير الزور، وقد تضرب ذات المواقع، ولكن لأهداف متباينة.
الطيران الروسي يقصف من أجل تعبيد الطريق أمام تقدم الجيش، على نحو ما حدث بأرياف حلب وحماة واللاذقية، بينما تقصف الطائرات الأميركية بهدف ضرب جماعة مسلحة محددة، بغض النظر عما يحدث بعد ذلك. بل إن الحملة الأميركية تحاشت منذ البدء بأن يجري تفسيرها على أنها شكل من الدعم للجيش السوري، على الرغم من أن هذا الجيش قد استفاد منها بطريقة غير مباشرة.
واليوم، يُمكن القول إن تقدم العملية التفاوضية في فيينا قد يُمثل فرصة للولايات المتحدة لبناء حد أدنى من التفاهم مع الروس. وهذا يُمكن تحقيقه على أي حال، وإن على المدى المتوسط.
إن التفاهم الأميركي الروسي، متى بلغ النضوج، قد يُمثل التطور الأكثر مغزى في البيئة الدولية للأزمة السورية. وهذا، على أي حال، مطلب دولي عام. وهو يجسد، في الوقت نفسه، مصلحة أميركية، ذات صلة مباشرة بالأمن القومي الأميركي.
إن ما حدث في مؤتمر فيينا-2 قد شكل محطة انطلاق يُمكن بكل تأكيد البناء عليها، وليس هناك فائض وقت يُمكن إضاعته، فالأزمة السورية يجب أن تعثر قريبا على تسوية سياسية، واقعية ومتماسكة، وليس ثمة سبيل لصيانة الأمن الإقليمي والدولي من دون التأكيد على هذا الخيار.
إن التفجيرات الانتحارية في باريس قد أوضحت على نحو لا لبس فيه بأن مفاعيل الأزمة السورية قد تجاوزت النطاق الإقليمي، وارتدت طابعا عالميا. وعليه، فإن التسوية السياسية الواقعية لهذه الأزمة لابد أن تكون مهمة عالمية، يتحرك من أجلها الجميع.
إن ما حدث في باريس يجب أن يكون حافزا لهذا العمل، كما قال وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير، في ختام اجتماعات فيينا-2. وهو ما أكده أيضا الوزير كيري، الذي صرح بأن “تأثير الحرب ينزف في جميع دولنا.. وقد حان وقت توقف النزيف في سوريا”.
إن العالم سوف يغدو أكثر أمنا واستقرارا في اليوم الذي يعم فيه السلام ربوع سوريا. وإن الجهود الدولية الراهنة ستنتهي في اللحظة التي يجلس فيها الوطنيون السوريون ليبحثوا سوية واقع القطر السوري ومستقبله، دونما تدخل أو وصاية من أحد. وهذه أساسا فلسفة الدعم الدولي المطلوب. وهكذا أيضا تخبرنا تجارب التاريخ في العديد من دول العالم.
Thanks for a thoughtful article 🙂