برغم الأمر التنفيذي الذي صدر عن حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو، مطلع هذا الشهر، والذي طالب فيه بسحب الاستثمارات من الشركات التي تدعم حركة المقاطعة «بي دي أس»، إلا أن خطوة كومو لا تعكس السياسة العامة للولايات المتحدة. فهناك تحول مستمر في الخطاب السياسي الأميركي، وجزء من هذا التحول يرجع إلى الاختلاف في القراءة السياسية بين الأجيال، وإلى تأثير وسائل الإعلام والتواصل الجديدة والبديلة والاجتماعية في العملية السياسية.
هناك بناءٌ فكري مضلِّل يُركِّز على «الإرهاب» الفلسطيني و «الأمن» الإسرائيلي. هذه المصطلحات المضللة، والتي لا يفتأ معظم السياسيين يرددونها بلا تفكير، تُستَخدم في العادة لوصف الوضع في الشرق الأوسط. لكن يبدو أن بعض السياسيين في الآونة الأخيرة، أمثال مرشح الرئاسة بيرني ساندرز والسناتور باتريك ليهي، بدأوا بالخروج علناً عن هذا المسار، وهو ما يشير إلى تغيير واضح في الخطاب السياسي. هذا التغير القائم حالياً ساهم في تنظيم حملات المقاطعة أو خروج مرشحٍ مثل ساندرز ليُلقي خطابًا بولاية ايداهو، يتناول فيه قضايا من قبيل سيطرة إسرائيل على ٨٠ في المئة من احتياطات المياه في الضفة الغربية. ساندرز يتوخى أن تروق مواقفه إزاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لقاعدته الانتخابية، والتي هي بغالبيتها من الأصغر سنًا والأكثر تحررًا، وتمثل شريحةً كبيرة من قاعدة «الحزب الديموقراطي». وكونه يهودي وعاشَ في إسرائيل، فهو محصَّنٌ من بعض الهجمات أو حملات التشويه التي يتعرض لها الساسة الآخرون في هذا الصدد.
وتأتي المقاطعةُ كوسيلةٍ يمكن أن يتبناها الفلسطينيون الذين لا يجدون مَن يقودهم في الجانب السياسي. فالحركة الوطنية الفلسطينية مشلولة ومصدعة من الداخل، فيما العالم العربي مبتلٍ بالطائفية وتهيمن عليه أنظمة فاسدة وغير ديموقراطية. أما المجتمع المدني فبات يُمسك بزمام القيادة، بدلًا من الجسم السياسي، وصارت رسالته تروق لشرائح سكانية متنوعة جدًا لا تثق البتة بوسائل الإعلام الرئيسية. وبدأ العديد من الناشطين يعون بأن وسائل الإعلام الرئيسية تكذب، وأصبحوا يلتفتون إليها بارتياب وشكّ. وهذا لا يعني بالمجمل أنهم جميعًا أصبحوا ناشطين فلسطينيين واعين، لكنه يعني أنهم لا يتابعون وسائل الإعلام الرئيسية، وذلك خلافاً للجيل الأكبر سنًا.
محاولات تقويض الحراك
الرد على الحراك المتضامن مع فلسطين في الولايات المتحدة ليس مساويًا له بل يتعداه بكثير، وهو جامح ومدفوع الثمن من أصحاب المليارات وعشرات المنظمات ذات الميزانيات الضخمة. وما المؤتمر الذي عقد في مقر الجمعية العامة للامم المتحدة أواخر الشهر الماضي ضد حركة المقاطعة، بدعوة من الممثل الدائم لإسرائيل في الأمم المتحدة، الا دليل على النجاح الذي تحققه المقاطعة.
إن حدة رد الفعل ونطاقه دليلٌ على درجة التغير الخطابي. فقد بدأت تنتاب الساسة المحافظين وقادة المجتمع اليهودي الأميركي (الأكثر تطرفًا إلى اليمين من غالبية أفراد المجتمع الذي يزعمون تمثيله) حالة من الهستيريا بسبب التحدي الذي تواجهه روايتهم التي روجوها بنجاح ولفترة طويلة. لكن القيم الأميركية الجوهرية المتمثلة في حرية التعبير والحريات الأكاديمية، فتحت باب النقاش حول الصهيونية ومعاداة السامية. وهي القضايا التي لا تريد القوى الصهيونية أن تطرح للنقاش، علماً أن الهجمة الصهيونية على المقاطعة اثارت جدلًا فضحَ الرواية الزائفة.
الخطابي والسياسي والسياساتي
برغم أن بعض شرائح المجتمع الأميركي باتت أكثرَ إنصاتاً لصوت الحق، إلا ان ذلك لم يُغير تعريف النخب الأميركية للمصالح القومية الاستراتيجية في الشرق الأوسط. فترجمة التغيير المستمر على صعيد الخطاب إلى سياسات، تتطلب ترجمته أولًا إلى شأنٍ سياسي. وما تفعله هذه الإدارة أو تلك يتأثر بنظرتها إلى المصالح الأميركية المادية والاستراتيجية.
إن معظم ما يحدث في الجامعات والكنائس والمجتمع المدني من تضامن مع حركة المقاطعة لا علاقة له بالسياسة. فأعضاء مجلس الممثلين أو حكام الولايات لا يُنتَخبون لأجل مواقفهم إزاء هذه القضية، ولا تزال تفصلنا خطوات عديدة عن حدوث تغيرٍ كبير على الصعيد السياسي. وهناك دلائل صغيرة تُظهر ما قد يحدث أو لا يحدث، كحالتي ليهي وساندرز وشخصيات أخرى مدركة ومتفاعلة مع التغيرات في تركيبة أعضاء «الحزب الديموقراطي»، والتركيبة السكانية في البلاد عمومًا. لكن في ظل غياب التغيير السياسي والتغير في النظرة إلى المصالح الأميركية وطريقة فهمها، فإننا لن نرى تغيرًا في السياسات.
وعند ترجمة السياسة إلى سياسات، فإن البُعد الأميركي ليس الوحيد المعني. فمن الأهمية بمكان أن يُعاد إحياء الحركة الوطنية الفلسطينية، بحيث تكون قادرة على التعبير عن الأهداف الوطنية الفلسطينية بطريقة مقنعة. ولم يكن الحال هكذا لفترة طويلة. فالمجتمع المدني الفلسطيني أو الأميركي يمثلان نفسيهما فقط، وما يستطيعان القيام به، برغم أهميته، لا سيما في الظرف الراهن، يختلف تمامًا عمّا لو كانت هناك حركة وطنية فلسطينية نشطة قادرة على التعبير عن استراتيجية واضحة من أجل التحرر. وحين تتبلور تلك الحركة، سوف تتغير الأمور. وذلك ينطوي بالطبع على أخذ الخيارات الاستراتيجية الصحيحة، لأن الفلسطينيين اختاروا، في بعض الأحيان في الماضي، خيارات استراتيجية خاطئة.
التقاطع بين اليمينيّين
لا يقدِّر الكثيرون حتى الآن التقاطعَ القائمَ بين السياسة الأميركية والسياسة الإسرائيلية. فكثيرٌ من الساسة الإسرائيليين المُهيمنين، بمن فيهم العديد من أعضاء الحكومة الحالية، ليسوا سوى امتداد للمتعصبين الذين استولوا على «الحزب الجمهوري». وشليدون أديلسون دليلٌ على ذلك، فهو من أسخى المانحين لليمين الجمهوري واليمين الإسرائيلي. وقد بات اليمين الإسرائيلي الحاكم واليمين الأميركي ملتحمين. وهناك أواصر متينة بين الديماغوجيين المتعصبين والعنصريين الذين يهيمنون حاليًا على «الحزب الجمهوري» وبين المتعصبين والعنصريين الذين يهيمنون على السياسة الإسرائيلية.
وبرغم أن أوباما هو أحد أكثر السياسيين الممالئين لإسرائيل حين يتعلق الأمر بالحقوق الفلسطينية، فهو يعطي الإسرائيليين وحلفاءهم من الأميركيين سببًا وجيهًا لكرهه حين يفضح خدعة الفزاعة الإيرانية وحين يغيّر الشرق الأوسط استراتيجيًا في المحصلة. كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت إدارة أوباما ستصدر معايير أو تتبنى قرارًا في الأمم المتحدة بشأن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. علماً أن المتّبع الآن يتمثل بمعايير بيل كلينتون، برغم أن إسرائيل لم تأخذها قط على محمل الجد.
العلاقات الأميركية ـ العربية
بدأ صُنّاع السياسة الأميركية وأقطاب التجارة الأميركية يدركون أن حلفاء الولايات المتحدة الثلاثة الرئيسيين في المنطقة – إسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا – يثيرون مشكلات كبيرة للسياسات الأميركية برغم أن الولايات المتحدة ما زالت تعتبرهم أصولاً نافعة. كثيرون في واشنطن يدركون أن هذا ليس أمرًا جيدًا. غير أن قدرتهم على التصرف حيال الأمر محدودة، لأن المصالح التجارية الأميركية الأكثر نفوذًاً لا تستطيع فصل نفسها عن أموال نفط الخليج، علماً أن هذه المصالح تتضمن صناعة النفط والقطاع المصرفي والقطاع العقاري وصناعة الطيران والدفاع وغيرها. هكذا، وبرغم أن صانعي القرار يدركون المشكلات المتولدة عن سياسات هذه الدول، فإن بعض أكثر المصالح نفوذًاً في الاقتصاد الأميركي متشبث تمامًا بالوضع الراهن في منطقة الخليج.
يدفع الرئيس أوباما وإدارته باتجاه التغيير لكن ينقصهم الحزم. ولا أحد يعلم ما إذا كانت الإدارة المقبلة ستنظر إلى الأمور في ضوء ذلك. وفي غضون ذلك، ساعدت البيئة المسمومة التي يبثها منهج التكفير السعودي في إقامة تحالفات بين إسرائيل ودول الخليج. ومن دلالات هذا التحالف إبرامُ اتفاقِ نظام «رايثيون» الدفاعي المضاد للصواريخ في دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي تعكفُ شركةٌ أميركية في الظاهر على بنائه، في حين أن إسرائيل هي مَن يديره بالفعل. وهذا تحالفٌ عسكري مكتمل الأركان إلا في الاسم. هذه هي البيئة التي نعمل فيها اليوم: المستبدون الذين يحكمون الخليج ويهيمنون على السياسة العربية منذ عقود، ماضون في التحالف علنًا مع إسرائيل.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.