لا شك في أن الوضع في سوريا يتّجه حالياً نحو مزيد من التأزم في ظل المعارك المستمرة حول حلب. واللافت أن هذا التأزم جاء بعد حوالي أسبوعين على زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى موسكو في الخامس عشر من شهر تموز الماضي، والتي التقى خلالها بالرئيس الروسي لساعات طوال لبحث سبل حل الأزمة السورية. آنذاك انتشرت الكثير من الآراء المتفائلة بشأن اقتراب تعاون روسي ـ أميركي فعلي في سوريا على المستوى العسكري لمواجهة تنظيم الدولة «داعش» و «النصرة»، التي تحوّلت، بطريقة مسرحية، إلى «جبهة فتح الشام» وفكت ارتباطها بتنظيم «القاعدة». وارتبط مع هذا التفاؤل احتمال العودة إلى مسار التسوية السياسية في سوريا وفق الاتفاقات والقرارات الدولية ذات الصلة المعروفة للجميع. وفي هذا السياق كان كيري يُبشر بأن شهر آب الجاري يمثل النقطة الفاصلة للحل السياسي، حتى أن بعض المتفائلين فهم هذا «التبشير الأميركي» على أن واشنطن وموسكو قد اتفقتا نهائياً بشأن الانتقال السياسي، الذي من المفترض أن يبدأ بالفعل في هذا الشهر تحديداً، بما في ذلك التمهيد لعملية تنحّي الرئيس السوري.
وتأتي الأحداث الأخيرة حول حلب لتثبت عكس هذا التفاؤل، لدرجة أن كيري بات يهدّد بإنهاء التعاون مع روسيا بشأن سوريا في حال «كانت العملية الإنسانية، التي أعلنتها موسكو في حلب، خدعة». وخرجت الخارجية الأميركية، على لسان ناطقها الرسمي مارك تونر، لتنسف آراء المتفائلين، بقوله «إن المناقشات التي أجريت بين واشنطن وموسكو بشأن الملف السوري لم تكن اتفاقيات، بل محاولات للتوصل إلى تفاهم بغية إيجاد حل سياسي». وهذا قد يعني في ما يعني أن الأمر سيحتاج إلى زيارات أخرى من جانب كيري إلى موسكو. لكن الأهم أن هذا يمكن فهمه، بدرجة ما، في سياق مواصلة الضغط الأميركي على موسكو بشأن سوريا كي تضغط الأخيرة بدورها على النظام السوري لقبول عملية الانتقال السياسي.
الروس يؤكدون أن ما أطلقه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في 28 تموز الماضي، من عملية إنسانية واسعة النطاق في حلب لا يعني التخطيط لاقتحامها. والكرملين ينفي تماماً استعداد القوات الروسية والسورية لشن عملية عسكرية في حلب تحت غطاء العمل الإنساني. فالأمر، بحسب الروس، يهدف إلى خروج المدنيين والمسلحين الراغبين في إلقاء السلاح. ويدللون على ذلك بمرسوم العفو الرئاسي السوري عن كل مَن يُلقي السلاح ويُسلّم نفسه. وهذا، في الحقيقة، يشبه إلى حد كبير ما جرى في الشيشان خلال الحرب الثانية، التي بدأت نهاية تسعينيات القرن الماضي. بيد أن واشنطن، من جانبها، تُشكك في النيات الروسية، مؤكدة أنها «لم تكن على دراية بخطط روسيا لمهاجمة حلب ومحاصرة المدنيين». ولعل من المُفيد هنا الإشارة إلى أن بعض الخبراء الروس يعتقد بأن اقتحام حلب والاستيلاء عليها من قبل القوات الحكومية السورية وحلفائها سيحدث عاجلاً أم أجلاً. فهم يرون في هذه الخطوة ضرورة ملحّة لترجيح كفة النظام وفرض الشروط النهائية للتسوية السياسية.
إن واشنطن تُدرك جيداً أن موسكو تتعجّل الحل السياسي، وفق الرؤية الروسية المعروفة، قبل أن تنتهي فترة حكم إدارة باراك أوباما. ولكن هذه الإدارة لا تبدو تتعجّل هذا الحل، فهي، بحسب وسائل إعلام روسية، تُماطل بهدف نقل الملف السوري برمّته إلى الإدارة الأميركية الجديدة سواء كانت «ديموقراطية» أو «جمهورية». غير أن فريقاً آخر من وسائل الإعلام الروسية لا يزال متفائلاً بأن أوباما يرغب في تحقيق تسوية في سوريا في ظل حُكمه، حتى يُسجل بعض النقاط لنفسه ولحزبه «الديموقراطي» في المعركة الانتخابية أمام ترامب «الجمهوري»، إلا أن الأحداث تُشير إلى عكس ذلك، وتصب في صالح فكرة مماطلة إدارة أوباما. في غالب الظن، لن تخسر إدارة أوباما كثيراً من هذه المماطلة، حيث يعتقد الأميركيون أن إطالة وقت العملية العسكرية الروسية في سوريا قد يُكلف موسكو خسائر تزيد من الضغط عليها مستقبلاً خلال أي مفاوضات، سواء بشأن الأزمة السورية أو غيرها من الأزمات العالقة بين البلدين. فحادث إسقاط المروحية الروسية في الأول من الشهر الحالي ومقتل خمسة عسكريين روس كانوا على متنها أثار بعض القلق داخل روسيا. لكن الروس، في جميع الأحوال، يعتبرون أن خسائرهم في سوريا ليست كبيرة وأنهم قادرون على تحمل خسائر أكبر من ذلك. فهم دخلوا عسكرياً وسياسياً إليها ليبقوا لمدة طويلة، كما يردّد خبراء روس.
اللافت أن الجانبين الأميركي والروسي، حتى في ظل التوتر العسكري الشديد حول حلب، ما زالا يُشددان على غياب الحل العسكري في سوريا، وعلى ضرورة الحل السياسي. بالطبع، كل منهما يفهم هذا الحل حتى اللحظة على طريقته، ويُفسّر القرارات الدولية وغيرها من قرارات وتفاهمات بشأن الوضع في سوريا وفق مصالحه. ولذلك، ليس مستغرباً تماماً أن تطرح موسكو قبل شهور أنها مع فكرة الفيدرالية في سوريا في حال وافق الشعب السوري عليها. وليس مستغرباً كذلك أن تُرجّح واشنطن مؤخراً، على لسان مدير «وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية» («سي. آي. أي.») جون برينان، عدم بقاء سوريا موحّدة، كما كانت في السابق.
إن الوضع الراهن حول حلب يعكس، برأينا، مأزق ما يُسمّى بـ «التفاهمات» الروسية الأميركية في سوريا. فبهذه «التفاهمات» أو من دونها لم تتمكّن موسكو أو واشنطن من وضع نهاية للمنظمات الإرهابية التي تصول وتجول في الأراضي السورية، برغم «اتفاقهما» على أولوية محاربة هذه المنظمات. كما أنهما لم يتمكّنا بعد من تفعيل ما يتردد على لسان مسؤولي البلدين، ليل نهار، من ضرورة الحل السياسي وأولويته على الحل العسكري.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.