المؤرخ اليوناني ثيوسيديدس، هو أحد أهم رواد نظرية القوة، توصل بقراءته للحروب بين أسبرطة وأثينا قبل 2500 عام قبل الميلاد إلى قانون حتمية الحرب، وإلى أن منطق العلاقات الدولية لم يتغير وثابت، ويقوم على منطق العداوة، ومعضلة الأمن، وهما المحركان للسلوك السياسي للدول التي تعطي أولوية لمصالحها الأمنية، لكن ما توصل إليه ثيوسيديدس لا يعنى أن خيار الحرب هو الخيار الوحيد، كما يقول هوبز «إن الجو العاصف لا يعنى أن تسقط الأمطار». هذه العلاقة هي التي تحكم أمريكا وإيران. فأساس العلاقة هي الكراهية، والمعضلة الأمنية. فالولايات المتحدة لكونها القوة الكونية التي ما زالت تتحكم في القرار الدولي، ولها مصالحها الاستراتيجية الثابتة في المنطقة، وإيران من ناحيتها القوة الإقليمية الصاعدة ، لم تعد هي إيران قبل ثلاثة عقود، اليوم تسعى لامتلاك القدرات النووية، وتحاول أن تمد مناطق نفوذها شرقاً وغرباً، خصوصاً في منطقة الخليج والعراق واليمن، وسوريا، وصولاً إلى ساحل البحر المتوسط، وهذا التمدد له تداعيات خطيرة، ليس على مصالح دول المنطقة فقط، بل على نظرية المجال الحيوي للولايات المتحدة و«إسرائيل». وهو ما يعني أولاً تراجع المجال الحيوي ل«إسرائيل»، واختزاله بداخلها، وتقليص مناطق المجال الحيوي للولايات المتحدة، وثانياً تقلص حجم مصالحها الاستراتيجية، وتقاسمها مع إيران. ولهذا التمدد تداعيات مباشرة على مفهوم الدور القيادي للولايات المتحدة، بما يعنى تقليص هذا الدور. ولا تقتصر تداعيات التمدد الإيراني على الولايات المتحدة، بل على أمن دول الخليج، وهذا ما نراه الآن في محاولة إيران توسيع خريطة تحالفاتها الإقليمية والدولية مع روسيا، ومن ثم يشكل هذا تهديداً أمنياً لخريطة التحالفات التي تربط الولايات المتحدة بدول المنطقة.
هذه العلاقة تحكمها حالة من التوتر التاريخي والمواجهة منذ الثورة لإيرانية وسعي طهران لتصدير ثورتها إلى الخارج.
إشكالية العلاقة بين الدولتين انهما تتزاحمان في المناطق الاستراتيجية نفسها، خصوصا منطقة الخليج العربي التي كانت، وما زالت إحدى أهم المناطق الاستراتيجية الحيوية للولايات المتحدة. ومما فاقم من توتر العلاقات محاولة إيران تضخيم قوتها العسكرية، وسعيها لامتلاك القدرات النووية، والقدرات الصاروخية عابرة القارات، وهذا التوجه يشكل مصدراً آخر لتهديد المصالح الأمريكية في المنطقة. وهذا ما يفسر لنا موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من الاتفاق النووي مع إيران، ومسألة فرض العقوبات عليها، وما يفسر لنا إعلان «إسرائيل» الصريح ضرب المفاعل النووي السوري في دير الزور، وهي رسالة قوية لإيران بأن «إسرائيل» قد لا تتوانى بضوء اخضر أمريكي، عن تكراره معها. لكن الإشكالية الجديدة أن إيران لم تعد إيران ما قبل ثلاثين عاماً، فلا شك في أن إيران نجحت في تطوير قدراتها العسكرية، و تثبيت وجودها في أكثر المناطق حساسية من الناحية الأمنية. هذا الوضع سيضع الإدارة الأمريكية أمام خيارات صعبة ومتعددة. لكن ما يحكم كل الخيارات الأمريكية أنها لن تسمح لإيران بامتلاك القدرات النووية، ولن تسمح لها بالتمدد الإقليمي، وهذا المحدد قد يقف وراء الخيارات التي قد تلجأ إليها الولايات المتحدة.
ولعل أبرز هذه الخيارات، وأكثرها واقعية، المطالبة بإعادة النظر في الاتفاق النووي المعقود بين إيران ومجموعة خمسة زائد واحدا، والمطالبة بمزيد من القيود، وإذا لم يتحقق ذلك، قد تعلن الولايات المتحدة انسحابها من الاتفاق والذهاب لفرض مزيد من العقوبات. ويبقى خيار الحرب قائماً، سواء بالوكالة بالسماح ل«إسرائيل» بتوجيه ضربات للمفاعلات النووية الإيرانية، أو من خلال المواجهة المباشرة، إلا أن خيار الحرب الشاملة يبقى مستبعداً، أمريكياً وإيرانياً، للتداعيات الكبيرة التي يمكن أن تترتب عليها، وهذا قد يتعارض مع رؤية الرئيس ترامب، وشعاره «أمريكا أولاً»، والتخوف من أن مثل هكذا خيار يمكن أن يشجع على نشر الإرهاب، وتنشيط الحركات المتشددة في كل اتجاه.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.