أكثر من 16 شهراً مضت منذ تسلم السيد دونالد ترامب منصب الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الاميركية، ومن المفيد دراسة الواقع الاميركي الجديدة والتفكير في منهج الرئيس دونالد ترامب وكيفية تعاطيه مع الملفات الدولية المهمة وتأثيره على منطقتنا، ومنها العراق.”اميركا أولاً”، هو أحد الأهداف الرئيسة التي كان يرددها الرئيس ترامب مراراً وتكراراً. ماذا يعني ذلك في الواقع؟ كيف يمكن أن يفسرها الناس خارج الولايات المتحدة؟.
قد يجد المرء صعوبة في تحديد تداعياته وخارطة تنفيذه الواضح في عالم يعتمد كثيراً على الجغرافيا-السياسية والجغرافيا-الاقتصادية المعقدة. هل يعني ذلك، على سبيل المثال، أن الولايات المتحدة سوف تنظر فقط إلى مصالحها وحدها، والبلدان الأخرى يجب أن تقلق بشأن أمنها وتنميتها؟ إذا كان الأمر كذلك، فنحن بحاجة إلى تحديد مجالات التعاون ومكامن الخلاف ايضاً.
من ناحية أخرى ماذا عن “مكافحة الامراض العالمية العاجلة” مثل داعش والإرهاب الدولي؟ أو وضع المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهم ممن حددوا لنا البنية السياسية والاقتصادية والأمنية العالمية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
إذا لم يكن لدينا منابر فعّالة لمعالجة التحديات العالمية، فمن وكيف سيتم توفير الرؤية العالمية للمعالجات؟ وخصوصاً مع تعلق هذه الرؤى ببعض التحديات العاجلة للبشرية مثل انتهاكات حقوق الإنسان، والجرائم الرقمية، وانتشار التسليح النووي، والاحتباس الحراري العالمي، والتهديدات الإلكترونية، ونقص المياه، والزيادة العالية للسكان، والحرب التجارية العالمية…إلخ.
حتى الآن ، يواجه “اميركا اولاً” خطر تفسيره على أنه “أميركا قوية، واميركا لوحدها لو لزم الامر”. وبالمناسبة هذه ليست بالانعزالية كما يراها البعض بل الإدارة الجديدة تقول عليكم ان تستجيبوا لمطالبي لأنني احتاج ان اركز على مصالحي وتحدياتي الداخلية فقط. لا يمكن للمرء أن يكون ساذجاً ويتوقع من الولايات المتحدة أن ترمي بثقلها في معالجة هذه التحديات البشرية لوحدها، بينما يقف الآخرون على جنب، وليس من الصواب ايضاً أن تنظر البلدان فقط في مصلحتها الخاصة على حساب الأمن والاستقرار العالميين. مع إدارة الرئيس ترامب، لدينا خطاب جديد نحتاج جميعاً إلى فهم تشعبه وحدوده حتى نتمكن من تحديد اولوياتنا نحن مواطني هذا العالم.
اذ لم تأت طريقة ومنهج تعاطي الرئيس ترامب من فراغ، فلابد أنها جاءت كانعكاس لبعض الحاجات والمخاوف الحقيقية للشارع الأميركي. كما لا يمكن للمرء أن يتجاهلها على أنها شعبوية تافهة، أو انها تقتصر على جغرافيا الولايات المتحدة وحدها، حيث ان عناصر الثقل الاقتصادي والسياسي والعسكري الاميركي الهائل مؤثرة بشكل كبير على المتغيرات العالمية، بغض النظر عما إذا كان الرئيس ترامب على المسرح السياسي أم لا، وضروري ان لا ننسى اننا نرى هناك حراكاً سياسيا مشابها في أُوروبا.
في أعقاب المأساة والأعمال الإرهابية في الحادي عشر من أيلول 2001، لا يمكن للمرء تجاهل تصرفات الولايات المتحدة الأحادية الجانب في شؤون مهمة وعديدة، وقد تُرجم هذا بوضوح في قرار الرئيس بوش بغزو العراق في العام 2003 والذي لم يكن لديه دعم من القانون الدولي، أو الاستخدام واسع النطاق لطائرات من دون طيار المقاتلة من قبل الرئيس أوباما، أو قرار الرئيس ترامب في الانسحاب من اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران، على الرغم من وجود معارضة قوية لخمس دول كبرى لهذا القرار.
ويمكن للمرء أن يميز بعض الخصائص للسياسة الخارجية الدولية للرئيس ترامب، أولاً تعامله مع الملفات المعنية في هذا الشأن كصفقات آنية محددة أكثر من كونها ستراتيجية بعيدة الامد، ويعني نهج الصفقات هذا أن المكاسب على المدى القصير قد تكون أكثر أهمية منها على المدى البعيد. وهكذا يمكن للدول أن تغير رأيها بشكل أسرع، وأن تتخلى عن أي اتفاق لأن عواقبها محدودة، وبالتالي تصبح الأحادية والتقبُل بالمخاطر متشابكين في سياسة الولايات المتحدة. ولعل تخلي الرئيس ترامب عن الكثير من التزامات وبرامج سلفه الرئيس أوباما ليس ببعيد عن الذاكرة.
وقد يكون مفيداً الاشارة الى أن الرئيس ترامب يتأثر أيضاً بالعلاقات الشخصية، وهنا يبرز أهمية التفاعل معه عن قرب مع القادة السياسيين الاخرين.
بالإضافة الى الخصال أعلاه، هناك خصال إضافية متميزة لهذه الإدارة، مثل التركيز على المصالح الانية على حساب العلاقات التاريخية، والطلب من الاخر الدفع مقابل حماية وتعاون الولايات المتحدة، بالإضافة الى انه يتعين على الولايات المتحدة الحصول على فوائد مالية من هذه الصفقات السياسية، فضلاً عن حماية الوظائف في داخل الولايات المتحدة. أي ان الولايات المتحدة تقول للدول والمنظمات العالمية ان المال والاقتصاد اهم لي من أي شيء اخر، واننا سنتعامل مع هذه الدول والمنظمات بقدر الحد الأدنى والتي عموماً ستكون تكتيكية ومحدودة.
وعليه نلاحظ سعي الولايات المتحدة لإظهار قوتها على الصعيد العالمي عسكرياً ومالياً، وهنا قد نرى أهمية تفوق المال على القوة العسكرية والسياسية. دعونا لا ننسى أن الرئيس ترامب يسير على خطى الرؤساء الأميركيين الأخيرين الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة هي أقوى لاعب في العالم، واستعداده لفرض سياساته من خلال مزيج من العناصر الأحادية والمفاجئة والقوة الصلبة/الناعمة والتي تؤدي الى خلق النتائج المرجوة، أو في أسوأ الأحوال تردع الأخرين وتجعلهم بالتفكير مرتين قبل أن يتمكنوا من تجاوز المصالح الأميركية. وقد يقول البعض إن مثل هذا النهج قد أعطى بعض الثمار لإدارة ترامب، كما هو الحال في صفقات الولايات المتحدة الثنائية مع بعض الدول الكبرى، والنتيجة الإيجابية الأولية من الملف النووي لكوريا الشمالية.
وأخيراً في الساحة السورية، حيث كانت استجابة الإدارة الاميركية مناسبة وفعّالة (من وجهة نظرهم)على ادعاءات قيام نظام دمشق بشن هجمات كيميائية ضد مواطنيه، اذ نفذ ترامب ما لم يفعله سلفه. في الحالات أعلاه، قام الرئيس ترامب بكسر الوضع القائم وفرض منهجه الخاص القوي والناعم عليها. مع ذلك، فإن مثل هذا النهج الشرس يحمل في طياته أيضاً فرصاً على المدى البعيد قد تؤثر على مصداقية الولايات المتحدة، كما هو الحال في الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ والتي استغرق تفعيلها وقتًا طويلًا حتى اتت ثمارها للبشرية، أو تحدياً للتجارة العالمية القائمة واتفاقياتها.
من ناحية أخرى، قد ينظر الاخر إلى هذه الأمور على أنها خدعة ولن تأتي بثمارها كما هو الحال مع الحملة الانتخابية على الجدار مع الجارة المكسيك. دعونا لا ننسى أنه بما أن آليات الحكومة الأميركية واسعة ومعقدة، فإن تنفيذ أي سياسة جديدة يتطلب وقتا حتى يتم هضمها وتحليلها وتطبيقها.
هذه العلامة الزمنية ليست معروفة جيداً أو تؤخذ بعين الاعتبار من قبل العديد من اللاعبين، وعليه فأننا نسمع الكثير من الوعيد والتصريحات الصاخبة ولكن لا نرى حتى الان تفعيلا مباشرا لها.
من الواضح أن مثل هذا النهج الهجومي الجديد من قبل الرؤساء الأمريكيين تجاه القضايا الإقليمية المعقدة قد يعني أن البعض سيحاول أن يرفع من قيمة منافعه على اهتماماته.
في هذه الحالة وخصوصاً في منطقتنا فأن المملكة العربية السعودية وإسرائيل هما اللاعبان الإقليميان الرئيسان الذان حاولا الاستفادة من هذه السياسات الهجومية والطموحة الجديدة للمقيم الجديد في البيت الأبيض. وخير مثال هي محاولة حل قضية فلسطين مرة واحدة وإلى الأبد، وبالمثل جمع الحشود والجهود للتركيز ضد إيران كما لو أنها المصدر الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة.
من المفيد ان نذكر هنا ان إدارة ترمب، اكثر من اسلافه، يرى ساحة الشرق الأوسط من نظارات إسرائيلية وسعودية. من جانب اخر، الولايات المتحدة لا تحتاج بعد الى نفط الشرق الأوسط وربما لا ترى نفسها ملزمة باتباع نهجها السابق في حماية مصالح حلفائها. اما الان فالولايات المتحدة لا ترى دول المنطقة من منطلق المصالح المشتركة بل تراها، اكثر من أي شيء، كسوق لبيع السلع الاميركية المختلفة. بعد الحادي عشر من أيلول 2001، إذا نظر المرء إلى الولايات المتحدة من الخارج، فأنه لا يستطيع تجاهل أن الولايات المتحدة لم تعد هي القطب الوحيد في عالمنا كما كانت في السابق
هنا قد نشهد تحديات حروب باردة جديدة متوقعة ضد الولايات المتحدة من منافسيها، وبالتالي ستظهر التكنولوجيا والحرب الرقمية، أو المناوشات الحادة، أكثر تكراراً.
فضلاً عن ذلك، فأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تدعي احتكارها تماماً للمجال الإلكتروني، حيث ان منافسيها ليسوا قلة او ضعفاء، كالصين وروسيا على سبيل المثال لا الحصر. من ناحية أخرى، فإن القرارات والأفعال الأميركية الأحادية تجعلها تخسر أصدقاءها وحلفاءها بسرعة كبيرة، كما في أوروبا.
هذا الاتجاه يخلق تأثيراً سلبياً على المدى الطويل للأمن العالمي.
هنا ستحاول أوروبا (المانيا والمملكة المتحدة وفرنسا على وجه الخصوص) إدارة شؤونها وأمنها بعيداً عن شريكها التاريخي الرئيس عبر الأطلسي، وقد نرى في المستقبل أن المزيد من الأوروبيين لن يكونوا قادرين على الاعتماد على الدعم الأميركي عند حدوث كوارث أمنية او بيئية او إقليمية او دولية. وكما هو معروف في السياسة الدولية. فأن روسيا والصين وغيرهما سيشهدان ويبحثان عن فرصة لإظهار تأثيرهما، وبالتالي ستفقد الولايات المتحدة خصائصها الأحادية القطب وبعض من تأثيرها العالمي، ومن ثم فإن الاهتمام بمصالح الولايات المتحدة وتهديداتها لن يكون محور التركيز الرئيس للبلدان الأخرى، والتي تعني في المقابل تقليص القدرة التنافسية والأمن العالميين للولايات المتحدة الاميركية.
اذن ما نراه الان من متغيرات مهمة في واشنطن تجعل المراقب يعتقد اننا سوف لن نستطيع ان نتنبأ بما سيعمل عليه الرئيس الجديد. ضعف فهم معطيات قرار الاخر وعدم الاطمئنان الى انه فكر في مصالحنا ايضاً (أي انه لا يعتمد على منهجية ربح-ربح لجميع الأطراف) تجعل الصديق والعدو يقلقان وخصوصاً في تقييم التبعات المحسوبة وغير المحسوبة للخطوات الاميركية لان الحلفاء والأعداء لا يفهمونها دائماً وسيأخذون الإشارات الاميركية بشكل مختلف بناءً على مصالحهم الخاصة.
واخيراً لنرى الحالة من منطلق اكاديمي، في علم الإدارة والاعمال هناك نظرية تسمى (الابتكار الذي يخلق حالة من الفوضى Disruptive Innovation)، والتي تشير الى ان هناك نوع من الابتكار يقوم بخلق شبكة جديدة للسوق والقيمة، مما يؤدي الى تعطيل شبكة السوق والقيمة الحالية، ويحل محل الشركات القائمة والمنتجات الرائدة في السوق، مما يؤدي لخلق حالة من الفوضى.
تم تعريف المصطلح وتحليله أولاً من قبل الباحث الأميركي كلايتون كريستنسن في عام 1995، وقد تمت تسميته بالفكرة التجارية الأكثر تأثيراً في بداية القرن الحادي والعشرين. بالتأكيد ليست كل الابتكارات تخلق فوضى او خللا في السوق، حتى لو كانت ابتكاراً ثورياً، الا ان هذا النوع من الابتكارات التي تخلق فوضى عادةً ينتجها المبادرون ورجال الأعمال، بدلاً من الشركات الرائدة في السوق، لأنها غير مربحة بما فيه الكفاية في البداية ولأن تنميتها يمكن أن تستنفد الموارد النادرة بعيدا عن الحفاظ على الابتكارات(التي لابد منها للتنافس ضد المنافسة الحالية).
كما يمكن أن تستغرق عملية تغيير الواقع وقتًا أطول للتطور من النهج التقليدي والمخاطر المرتبطة بها أعلى من الأشكال الأخرى المتزايدة أو التطورية للابتكارات.
هل من الممكن ان نرى في ادارة ترامب ومنهجه نوعاً جديداً من السياسات الاميركية والتي قد توازي النظرية أعلاه في تطبيقاتها؟ الزمن وحده سيجيب علماً ان الرئيس يواجه تهديدات داخلية كبيرة ويزداد سخط الكثيرين على أسلوب ادارته.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.