تتدفق الأخبار هذه الأيام عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى المختلفة كالشلال، وإلى حد يصعب معه التفرقة بين ما يستحق التوقف عنده وما لا يستحق. الخبر الذى استوقفنى مؤخرا كان مشهد كارافان مكون من آلاف المهاجرين النازحين من ثلاث دول فقيرة فى أمريكا اللاتينية (هندوراس، وجواتيمالا، والسلفادور) باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، مرورا بالمكسيك. لم يبدأ الكارافان بدعوة مفتوحة من الحكومة الأمريكية، ولا كان متخفيا تحت جنح الظلام، وليس هناك ما يضمن أن الرحلة سوف تنتهى نهاية سعيدة. ومع ذلك تسير القافلة كما لو كانت قدرا محتوما. ما كل هذا اليأس؟ وهل للظاهرة جذور فى عولمة عرجاء وظالمة؟ وأخيرا، ماذا يعنى كل ذلك بالنسبة لنا فى مصر؟
رد الفعل الأمريكى الرسمى كان الرفض التام لهذا الغزو الجنوبى. إضافة إلى الاستعداد للمواجهة بـ15000 جندى، اتهم دونالد ترامب، فى تدوينة على تويتر، قادة هذه الدول بالفشل فى وقف هذا الزحف غير القانونى، وهدد بوقف المساعدات الأمريكية. فى المقابل، من المعروف أن القانون الدولى يعطى اللاجئين، خاصة الفارين من اضطهاد سياسى، الحق فى سماع شكواهم والبت فى جديتها، وفى كل الأحوال التعامل الإنسانى مع الجميع.
هذه دراما إنسانية من الدرجة الأولى، خاصة أن من بين أبطالها أطفالا ونساء، لكن ما هى الأسباب الكامنة وراءها؟ إذا نحينا الهجرة التى تفرضها الصراعات المسلحة جانبا، يمكن إرجاع المشكلة إلى طبيعة العولمة التى تسود عالمنا بعد الحرب العالمية الثانية. هذه النسخة من العولمة تسمح بحركة السلع والخدمات ورأس المال، لكنها لا تسمح بحركة العمالة على غرار ما تم بين دول الاتحاد الأوروبى. هذه الثنائية مكنت الشركات متعددة الجنسية من اغتنام الفرص فى شتى بقاع الكرة الأرضية، وكانت نتيجتها غير المدهشة، التى تساندها التقارير الدولية، اتساع الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة. ما يزيد الطين بلة أن العولمة الاقتصادية تصاحبها منظومة حوكمة دولية لا تقل ظلما، حيث تتمتع خمس دول فقط بحق الفيتو على أى قرار يأخذه مجلس أمن الأمم المتحدة. بالطبع لا تبقى موازين القوى الاقتصادية والسياسية على حالها مع مرور الوقت، لكن مثل هذه التحولات تأخذ وقتا ليس بقصير.
السؤال بالنسبة لنا: ماذا نحن فاعلون تجاه كارافان الهجرة من ناحية، ومنظومة العولمة من ناحية أخرى؟ من منظور أخلاقى، ليس أمامنا إلا شجب أى معاملة غير إنسانية للجموع الزاحفة من الجنوب إلى الشمال، كما يجب أن نقف مع المعسكر الداعم لعالم أكثر عدالة. من منظور عملى، ليس أمامنا إلا محاولة الاستفادة من الفرص المتاحة من العولمة، والعمل على تجنب ويلاتها. الانغلاق على أنفسنا يحرمنا من فرص التصدير والتشغيل، والسياحة وما تجلبه من عملة صعبة، والاستثمار وما يصاحبه من تقدم تكنولوجى، لكن الانفتاح غير المحسوب يؤدى إلى استنزاف مواردنا للخارج.
عودة لكارافان الهجرة إلى الشمال، ليس هناك شك فى أن الأخبار حول هذه الدراما الإنسانية سوف تتوالى فى الأسابيع القادمة. ومن المتوقع أن تنقسم الآراء بين من يتعاطفون إنسانيا مع من وصل بهم اليأس مداه، ومن يصرون على سيادة الدول على أراضيها. القضية الكبرى التى سوف نعيش معها لأجل غير مسمى هى قضية العولمة والحوكمة الدولية. فى هذه الأثناء، وحتى إشعار آخر، ليس أمامنا فى مصر سوى الانفتاح على العالم بذكاء. كيف نحقق ذلك؟ هذه قضية أخرى.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.