هناك دول وأمم لا نعرف عنها الكثير لأنه لا يخرج عنهم من أنباء وقصص سوى القليل؛ وحتى من كان منهم من الدول الكبرى أو العظمى مثل الصين وروسيا فقد نعرف عنهم النجاح الاقتصادي أو القدرة العسكرية أو النفوذ السياسي أو المنافسة مع الدول الأخرى. ولكن في كل الأحوال فإن المعرفة بهم ليست ذائعة، وبالتأكيد ليست عميقة، بالمقارنة بدولة مثل الولايات المتحدة التي يخرج عنها كل ثانية خبر ما، أو تغريدة، أو حدث سياسي أو فني ما.
والحقيقة أنه إذا كانت هناك معضلة في قلة المعرفة عن عدد كبير من الدول؛ فإن كثرة المعرفة عن دولة مثل أمريكا لا تقل تعقيداً كمعضلة من نوع آخر فيها الكثير من الضجيج والإثارة وما يدعو إلى الشغف أو يستدعي الذعر والخوف. وربما كانت السينما وأفلامها أكثر ما عبر عن الولايات المتحدة حيث دارت الموجة الأولى منها فيما عرف بأفلام «الويسترن» التي دارت حول هؤلاء الذين اتجهوا غرباً من الساحل الشرقي على المحيط الأطلنطي الذي قامت على شاطئه الولايات الأمريكية الأولى، ومنها إلى الساحل الآخر على المحيط الهادي.
في هذه الرحلة كان على الأمريكي أن يعيش دراما الرحيل، والانتقال من قلة الحيلة وفقر الموارد إلى البحث عن الذهب والغنى، وفي كل الأحوال التعامل مع أخطار «الهنود الحمر» والطبيعة برداً كالثلج وحراً كالجحيم. هنا كان على البطل الأمريكي أن يكون سريع الطلقات، عفياً، ومبدعاً، وشريفاً أحياناً ومجرماً أحياناً أخرى ولكنه شجاع في كل الأحوال.
الموجة الثانية جاءت مع الستينيات من القرن الماضي، وعندما خرج إلى الوجود رواية «ماريو بوزو» عن «الأب الروحي» وصارت فيلماً حصل جزأه الأول (١٩٦٩) والثاني (١٩٧٢) على جوائز للأوسكار. كلاهما صار بداية لأفلام المافيا، وما بعدها الجريمة بشكل عام، وباتت السينما الأمريكية تكاد تقسم الشعب الأمريكي إلى قسمين: شرطة ومجرمين. صارت الشرطة أنواعاً شرفاء ومنحرفين؛ كما انقسم المجرمون أنواعاً أكثر، قتلة ونصابون، وبات ذلك أنواعاً من الدراما والكوميديا. لم تعد أمريكا مثالية وإنما باتت هناك انساقاً من القيم الأخرى فيها الكثير من القسوة، وبعضاً من القانون، والعنف في كل الأوقات. تراجعت أفلام «الويسترن» ولم تعد المافيا إيطالية فقط وإنما سرعان ما تعددت مواطنها الروسية أو حتى الأيرلندية.
الموجة الثالثة جاءت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي عندما أخرج «جورج لوكاس» فيلمه عن «حرب الكواكب» الذي صار تعبيراً عن السياسة الأمريكية للرئيس رونالد ريغان الذي بدأ سباقاً جديداً للتسلح أدى إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة. بات الأمريكي باحثاً ومستعمراً ومسافراً في الفضاء، ومكتشفاً كل يوم لعوالم وآفاق جديدة، بعضها ربما كان خيراً مثل «أفاتار»؛ وربما كان شريراً قادماً من إمبراطورية «الشر». «الطيب الأمريكي» عاد هنا في أشكال متعددة لطيفة مثلما كان في «المريخي» أو غير لطيفة كما جاء في سلاسل من أفلام «المنتقمون» التي تدور بين قوى شريرة قادرة، والقوى الخيرة الأكثر قدرة بماليتها مثالية «كابتن أمريكا» أن تقهر الشر وتتفوق عليه.
الجائز الآن أن أمريكا ربما تكون مقبلة على قصة رابعة لها علاقة بتولي دونالد ترامب للسلطة تدور فيها الحياة دورة كاملة تختلف عن تلك الدورة التي بدأت منذ قيام الدولة حتى اغتيال جون كينيدي حين فقدت أمريكا مع اغتيال رئيسها الكثير من براءتها مزعومة كانت أو حقيقية. ولكن حتى تظهر هذه القصة فإن القصص الثلاث تعطي في مجموعها أو في تفرقها أشكالاً مختلفة للولايات المتحدة عبر مسيرة الحياة المعاصرة منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن؛ أي منذ باتت صناعة السينما معبرة عن الدولة الأمريكية، وعاكسة لوقائعها التي شملت حرباً للاستقلال وحرباً أهلية وحربين عالميتين، وحرباً باردة وعولمة، وحرباً جارية ضد الإرهاب ومن يعلم ماهية الحرب المقبلة؟!
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.