أعتقد أن أي مراقب – منصف – للأوضاع في منطقة هونج كونج الإدارية التابعة للصين وما تشهده من مظاهرات واحتجاجات منذ أكثر من شهرين لا يمكنه أن يتجاهل الدور الأمريكي الواضح في إشعال فتنة تلك المظاهرات والسعي بكل السبل للاستفادة منها كورقة ضغط قوية على حكومة بكين في إطار الحرب التجارية المشتعلة بين البلدين منذ سنوات و التي سعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إشعال فتيلها خلال العامين الماضيين واستخدام كل السبل لممارسة ضغوط على الصين للرضوخ للمطالب الأمريكية في الحرب التجارية وهو ما ترفضه الصين بشكل قاطع.
ومنذ عودة مقاطعة هونج كونج إلى السيادة الصينية من الاحتلال البريطاني عام 1997 وحتى الآن تدار بمسمى “دولة واحدة ونظامان”؛ بمعنى أنها جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية مع احتفاظها بنظام سياسي واقتصادي مختلف عن النظام الموجود في الصين نفسها أو ما يطلق عليه مصطلح البر الرئيسي الصيني مع احتفاظ الصين بالسياسة الخارجية والدفاع، وبالتالي فإن عمليات الاستثمار والسياسات الاقتصادية تختلف كثيرا عما تدار به باقي المقاطعات الصينية باستثناء مقاطعة مكاو التي تتمتع بنفس مميزات منطقة هونج كونج كمنطقة إدارية خاصة، وهو ما دفع بعض سكان هونج كونج للاعتراض على القانون الذي تم طرحه للمناقشة في البرلمان ويقضى بتسليم بعض المتهمين لمحاكمتهم في البر الرئيسي أو لدى محاكم الصين بعيدا عن هونج كونج، مطالبين بإلغاء ذلك القانون، وعدم التدخل في شئون المقاطعة من قبل بكين.
وبطبيعة الحال وجدت واشنطن الفرصة سانحة أمامها لممارسة دور الناصح الأمين لحكومة بكين ووضع “السم في العسل”؛ حيث قال الرئيس ترامب إنه ليس لديه مانع من لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ للحديث بشأن حل أزمة هونج كونج ووصفه بأنه زعيم كبير يحظى بثقة شعبه، مؤكدا “ليس لدي أي شك في أن الرئيس شي يريد تسوية مشكلة هونج كونج بسرعة وبطريقة إنسانية، وهو قادر على القيام بذلك”.
وأعتقد أن تصريحات الرئيس ترامب لا تحمل سوى نية واشنطن الواضحة في استمرار اشتعال الأزمة؛ حيث يدرك تماما أن الرئيس الصيني لن يلتقيه للحديث عن شأن داخلي صيني تماما؛ بل إن بكين حذرت أكثر من مرة من أي تدخل في أزمة هونج كونج؛ سواء من قبل واشنطن أو لندن التي تحاول أن يكون لها دور باعتبارها “المالك القديم” للمقاطعة -حسب رؤيتها- بل إن ربط واشنطن ما يحدث في هونج كونج بالحرب التجارية مع الصين يؤكد تماما أن أمريكا لا تسعى لحل أزمة المظاهرات قدر سعيها لتوظيف تلك الاحتجاجات لخدمة مصالحها والاستفادة منها في حربها التجارية ضد الصين.
والواقع الفعلي على الأرض في هونج كونج الجميلة –والتي زرتها مؤخرا- يؤكد أن هناك من يحرك تلك المظاهرات خاصة إذا علمنا أن المقاطعة تتمتع بشبه استقلالية في كافة قراراتها؛ سواء الاقتصادية أو البرلمانية، وأن لها عملتها الخاصة بها وهى “دولار هونج كونج” والدولار الأمريكي يعادل ثمانية دولارات وتتمتع بمستوى متقدم في كافة مناحي الحياة؛ سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، وتستقبل أعدادا كبيرة من السياح سنويا تتجاوز -ربما ثلاث أو أربع مرات- عدد سكانها البالغ سبعة ملايين نسمة بالإضافة إلى موانيها الضخمة والتي تشكل رقما مهما في حركة التجارة والاستثمار في العالم وتربطها علاقات متميزة مع البر الرئيسي الصيني.
وبالتالي فإن اندلاع تلك الأزمة تشكل تحديا واضحا لحكومة بكين ليس للتعامل مع مقاطعة هونج كونج فقط؛ بل وفى كيفية إدارة الصراع مع الإدارة الأمريكية التي تسعى لزيادة الضغوط التجارية على الصين من خلال استخدام ورقة مظاهرات هونج كونج كما قامت من قبل – ومازالت – باستخدام مقاطعة تايوان ودعمها عسكريا وأيضا دعم الدالاي لاما كجزء من حربها الاقتصادية والسياسية ضد الصين وهو ما تدركه القيادة السياسية الصينية جيدا وتعمل على التصدي له بل والتغلب عليه من خلال سياستها المتزنة؛ سواء داخليا أو خارجيا.
وبالتالي فإن أزمة هونج كونج كشفت أن الحروب التجارية ليست مرتبطة بالاقتصاد فقط؛ بل إن السياسة هي العامل الرئيسي الحاسم في كافة أنواع الحروب .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.