يجد المراقب لأبرز التحولات الحاصلة في السياسة الخارجية الأميركية، أن هناك نوعا من التراجع في مستوى الالتزام السياسي والقانوني تحديدا، وهو أمر مقلق جدا، خصوصا عندما تلامس تلك الالتزامات جوانب الأمن والاستقرار والسلام الدولي، حيث تبرز بشكل واضح العديد من محاولات التنصل من الالتزامات القانونية الأميركية ـ الدولية حيال تلك القضايا والتوجهات التي تمس مستوى توازن القوى الدولية الراهنة، ومصالح الدول التي تختلف مصالحها مع الولايات المتحدة الأميركية على رقعة الشطرنج العالمية.
وبتصوري أن السبب الرئيسي لذلك هي محاولات الحكومة الأميركية الراهنة بقيادة الرئيس الأميركي ترامب لإعادة وترميم المكانة المركزية الأميركية المتراجعة منذ بداية القرن الـ21 بأسلوب فرض القوة الأميركية بطرق متهورة تهدف لصناعة بيئة قانونية وسياسية تتماشى والتوجهات السياسية والمصالح الأميركية الدولية، ولو كان ذلك من خلال التنصل من الالتزامات والاتفاقيات والمعاهدات الدولية الملزمة أو تحدي القانون الدولي نفسه لبناء اتفاقيات ومعاهدات جديدة تتماشى ورؤية ومصالح الولايات المتحدة الأميركية في الفترة الزمنية القادمة.
ويعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي مع إيران ومعاهدة حظر الصواريخ القصيرة والمتوسطة أحد أبرز الأمثلة الواضحة على ذلك التراجع في مستوى الالتزامات الأميركية القانونية من جهة، والأسباب السياسية والعسكرية التي رفعت من درجة التوتر والفوضى وعدم الاستقرار الأمني والسلام الدولي خلال الفترة من 2018 – 2019م من جهة أخرى، وهو ما نجده واضحا في ردود الأفعال الدولية عموما، وردود أفعال الدول المعنية بشكل مباشر بتلك الملفات، أقصد روسيا وإيران.
وما يؤسف له أن الولايات المتحدة الأميركية لم تتوقف عند رغبة الانسحاب وتمرير فكرة التنصل من اتفاقياتها ومعاهداتها السياسية والقانونية الدولية، بل تجاوزت ذلك بكثير إلى الانتقال نحو محاولات استفزاز تلك الدول التي تنصلت من اتفاقاتها معها، أو التعاون مع دول يشكل مجرد التعاون معها خطرا من وجهة نظر تلك.
فعلى صعيد الملف النووي الإيراني وبعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية منه رغم اعتراض بقية الدول الموقعة عليه، توجهت الولايات المتحدة الأميركية إلى تصعيد الخلاف مع إيران عبر قيامها بتوسيع دائرة العقوبات والتضيق على هذه الأخيرة، الأمر الذي دفع الحكومة الإيرانية إلى إعادة النظر في موضوع تجاوز الـ300 كيلوجرام من تخصيب اليورانيوم المتفق عليه، وقد أكد الرئيس الإيراني في هذا السياق أنه (لم يعد أمام أوروبا متسع من الوقت لإنقاذ الاتفاق النووي، مضيفا أن انهيار الاتفاق النووي ليس من مصلحة المنطقة والعالم).
أما بخصوص انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من معاهدة حظر الأسلحة الصغيرة والمتوسطة مع القوة العظمى الثانية على مستوى العالم وهي روسيا فهو الآخر يعد من أخطر التصرفات الأميركية التي انعكست سلبا على الأمن والاستقرار الدولي، حيث كان الرد الروسي المقابل هو تعليق العمل بالمعاهدة، الأمر الذي بلا شك إن استمر سيدفع إلى إعادة التوسع في التسلح العالمي الاستراتيجي، يضاف إلى ذلك ما يمكن أن تشكله من هواجس ومخاطر على العديد من القوى الدولية كما هو حال الصين على سبيل المثال لا الحصر.
وفي هذا السياق قال ميخائيل جورباتشوف آخر زعماء الاتحاد السوفييتي السابق (إن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية هو خطأ كبيير). من جهته علق نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف قائلا: (إن خطة الولايات المتحدة للانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى ستكون خطوة في غاية الخطورة).
خلاصة ما نود قوله: إن الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس ترامب تسعى إلى إعادة النظر في العديد من التزاماتها القانونية الدولية، وهو أمر لا شك يعد حق من حقوقها، ولكن ما يؤسف له أن هذا الأمر يتم من جانب واحد، وعبر أسلوب استفزازي وتصعيدي خطير، وهو ما يحول ذلك الحق إلى انتهاك وتجاوز للحق، خصوصا عندما يكون في الطرف الآخر من ذلك التنصل المجتمع الدولي بأسره. ولا يمكن التغاضي عن وجود قوى لا تقل مكانة دولية عن الولايات المتحدة الأميركية كروسيا والصين، يمكن أن تلجأ هي كذلك للتصعيد.
مع التأكيد على أن استمرار هذا النهج الأميركي المتهور في التعامل مع التزاماتها القانونية الدولية سينعكس سلبا على نظرة العالم لها، وسيدفعها إلى عزلة جديدة، أضف إلى ذلك أن هذا الاسلوب سيؤدي إلى مزيد من الشكوك في نزاهتها وتراجع الثقة بها حيال العديد من التوجهات السياسية والأمنية الدولية المستقبلية على اعتبار أنها القوة الأكبر على المستوى العالمي، والتي يفترض أن تكون القوة الحامية للقانون والمدافعة عنه، الأمر الذي سيخلق مخاوف من تنصلها من العديد من الالتزامات القائمة اليوم مع العديد من دول العالم، يضاف إلى ذلك ما يمكن أن يتسبب به هذا الاتجاه من مخاطر على الأمن والسلام الدولي، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.