أميركا بحد ذاتها هي من عجائب الدنيا، البلد الأكثر تأثيرا على العالم في مجالات مختلفة، بلد القوة الاقتصادية والعسكرية، بلد المؤسسات والتنوع والانفتاح، بلد القوة الناعمة، بلد القانون، بلد المتناقضات، بلد يتنفس فيه التسامح، تعبث به العنصرية. بلد متقدم علميا، يحصد جوائز نوبل في أكثر من مجال. هذا البلد الأعجوبة الذي قال عنه كاتب أوروبي ذات يوم إنه الداء والدواء، يتواجد في كل مكان في العالم طعاما، أو فيلما، أو رياضة، أو قهوة، أو منتجا طبيا، أو وسيلة نقل، أو كتابا، أو دراسة علمية، أو قواعد عسكرية.
هذا البلد قد تجده في الداخل في التفاعل مع المواطن البسيط غير ما تسمع عنه في الإعلام. مواطن يركز على البحث عن وظيفة، وينصب تركيزه في الغالب على حياته المهنية ولا يشغل نفسه بالقضايا السياسية وخاصة القضايا الخارجية.
أذكر قبل سفري إلى أميركا في بعثة دراسية شعوري بشيء من القلق بسبب ما أشاهده من عنف في الأفلام الأميركية وما تتضمنه بعضها من مواقف عنصرية. بعد الوصول والاستقرار وجدنا أن من يسكن بجوارنا أميركي أسمر مع زوجته البيضاء. كانت بداية مريحة جعلتني أتساءل: هل ما تعرضه الأفلام الأميركية عن العنف والعنصرية مبالغ فيه. خلال وجودي هناك مع زملاء وأصدقاء سعوديين، استطعنا عقد صداقات مع أشخاص من جنسيات مختلفة، عربية وغير عربية، كوّنا فريق كرة قدم يضم السعودي والأميركي والبرتغالي، والمكسيكي، والعربي، والفرنسي. وبعضنا عقد صداقات مع عائلات أميركية من خلال التفاعل الاجتماعي داخل الجامعة. لاحظنا أن الأميركي بصفة عامة يسهل التعرف عليه ويتمتع بروح الصداقة والرغبة في الاكتشاف والتجديد والتغيير. كنا في مدينة صغيرة، وكانت تجربة جميلة في جوانبها العلمية والاجتماعية. كان البوليس يتعامل مع المخالفات المرورية بمهنية عالية، يحترمك كإنسان ولكن يطبق عليك القانون. أعلم أن المدن الصغيرة ليست مقياسا لإصدار الأحكام وتكوين الآراء والانطباعات عن بلد كبير مثل أميركا أو غيرها.
أتذكر تلك الأجواء وأنا أتابع ما يجري حاليا في أميركا من أحداث هي بمثابة تهم جاهزة توجه عادة للعالم الثالث. نعم يحدث في العالم الثالث مشكلات وأزمات وممارسات خاطئة، وما يبررها أنها تحدث في العالم الثالث. أما حين تحدث في بلد متقدم فإن ذلك رجوع إلى العالم الثالث عشر.
حوادث العنصرية والعنف والسرقات والتخريب وحرب الشوارع، وهدم المجسمات، والحروب الإعلامية، والتشكيك في الانتخابات، والانقسام الحزبي الحاد، وانتشار السلاح وارتفاع نسبة الجريمة وانتشار المخدرات، وتسريب بيانات أمنية. أتساءل هنا من جديد: هل الواقع الأميركي من الداخل في مرحلة سيئة غير مسبوقة أم هي مبالغة إعلامية؟ أم هي نتاج رأسمالية متطرفة.
صحيح أن التظاهرات والعنصرية وجرائم القتل ليست أمرا طارئا على المجتمع الأميركي، لكن ما يحدث مؤخرا يضمن ممارسات أكثر عنفا وجرأة في تحدي الأنظمة. انقسام حزبي حاد غير مسبوق، وانفلات أمني، وشرطة تكاد تفقد هيبتها، والأسوأ ظهور مطالبات بإلغاء الشرطة! النقاشات حول أخبار الممارسات العنصرية تعلق بردود أفعال على الأخبار من منظور حزبي ولا تطرح حلولا جذرية لمعضلة العنصرية تأخذ في الاعتبار العوامل الاقتصادية ومستوى التعليم، ومستوى الحياة الاجتماعية، وموضوع البطالة. هذه من الأمور البدهية بالنسبة للمفكرين الأميركيين، وهم يعلمون أن الخطوة الأولى لمكافحة العنصرية هي الموقف الوطني الموحد بعيدا عن التحزبات السياسية. أما الخطوة الأخرى المهمة من وجهة نظر كاتب محايد من خارج أميركا فهي تجديد الخطاب الإعلامي والاجتماعي.
الحل للعنصرية في كل العالم وليس في أميركا فقط هو أن تكون حياة الإنسان، أي إنسان مهمة، وألا يكون هذا المبدأ مجرد شعار من دون تطبيق.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.