كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، قبل عشرين سنة بالضبط، نقطة تحول مفصلية في المنطقة، كل شيء اختلف بعدها، السياسات والمصالح والحسابات والنظ والتوازنات الإقليمية.
احتُلت وتصدعت دول، وتقدمت أخرى لملء الفراغ، طرحت سيناريوهات تفكيك وتقسيم وتجزيء ما هو مجزأ، وجرت انتفاضات وثورات وصلت إلى طرق مسدودة بالاختطاف، أو الإجهاض.
وبدا العالم العربي كمن يواجه مصيره في التيه من دون بوصلة ترشده، ما إن يتبدى أمل حتى يجهض، وما أن يتلقى ضربة حتى تلحقها أخرى.
ولم يخطر ببال، مهما جمح به خياله، ما حدث في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ولا طرأ على فكر ما قد يليه من تداعيات.
بتوقيت متزامن، استُهدفت بطائرات انتحارية رموز الإمبراطورية الأمريكية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، برجا مبنى التجارة العالمي في نيويورك، ومقر «البنتاجون»، وكادت تضرب البيت الأبيض نفسه.
تبدت في ذلك المشهد مشاعر متناقضة، بعضها تعاطف مع الضحايا المدنيين الذين لقوا حتفهم من دون ذنب، أو جريرة، تحت الأنقاض، وكان صوته خافتاً، وبعضها تملكته الشماتة بما لحق بالقوة العظمى الأولى، وكان صوته مدوياً في أنحاء العالم العربي.
وتحت الصدمة تبلورت استراتيجية أمريكية جديدة غذّت الكراهية المتصاعدة للنظم الحليفة التي تدعمها واشنطن. وكانت تلك إجابة عن سؤال: «لماذا يكرهوننا؟»، الذي طرأ في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
هكذا أحيلت دواعي الكراهية إلى النظم العربية التي تحظى بعلاقات مع الإدارات الأمريكية، وأعفيت الاستراتيجيات والسياسات من أية مسؤولية، لا روجعت، ولا عدلت، ولا اعتذرت عن خطاياها في الشرق الأوسط.
العكس تماماً هو ما حدث، توحشت القوة وأفلت عيارها، احتُلت دولتان على التوالي: أفغانستان والعراق، باسم محاربة الإرهاب والتطرف في الأولى، ونزع أسلحة الدمار الشامل من الثانية.
وكانت النتائج الأخيرة أقرب إلى الهزائم الاستراتيجية، فلم تتقوّض أفكار «تنظيم القاعدة»، الذي خطط ونفذ هجمات سبتمبر، ولا جُففت منابعه، رغم النيل من حياة زعيمه «أسامة بن لادن»، فقد خرجت من تحت عباءته بالانشقاق جماعات جديدة أكثر تشدداً وعنفاً أخطرها «داعش». وعادت إلى السلطة في أفغانستان «حركة طالبان» حليفته القديمة.
كان ذلك تعبيراً عن فشل ذريع للاستراتيجية الأمريكية التي أخذت تتحدث ببرجماتية زائدة عن تغييرات جوهرية طرأت على بنية أفكار وتوجهات «طالبان»، أو أنها لم تعد إرهابية وفق تصنيفها السياسي المعتمد.
أمريكا الحالية ليست أمريكا قبل عشرين سنة، لم تعد قوة عظمى مهيمنة على مقادير العالم عقب نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق. هذا زمن انقضى، فأدوارها تراجعت، وأوزانها تصدعت داخل التحالفات الغربية، وأزماتها الداخلية تفاقمت تحت وطأة انقساماتها السياسية والعرقية.
ثم إن اليمين المحافظ الجديد الذي هيمن بأفكاره وتصوراته ومشروعاته في الشرق الأوسط على إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، تراجعت سطوته بفداحة.
لقد وجد اليمين المحافظ الجديد الذي يوصف أركانه بأمراء الظلام، في هجمات 11 سبتمبر فرصته السانحة لإنفاذ أفكاره ومشرعاته بالعمل العسكري المباشر لإعادة هندسة خرائط العالم العربي تفكيكاً وتقسيماً.
وهناك الآن ميل استراتيجي أمريكي يتوافق عليه الديمقراطيون والجمهوريون للتخفف من أعباء التمركزات العسكرية في الخارج، خاصة في الشرق الأوسط، وتركيز الاهتمام في الشرق الآسيوي، حيث الصراع على المستقبل مع الصين.
ورغم عشوائية الانسحاب من أفغانستان إلا أنه خط استراتيجي ثابت ومتوافق عليه سوف يعقبه في مدى منظور انسحاب آخر من العراق.
ما الذي سوف يحدث في اليوم التالي للانسحاب الأمريكي المتوقع؟ بعد احتلاله مباشرة كتب «توماس فريدمان» على صفحات ال«نيويورك تايمز»: «إن السبب الحقيقي لضرب العراق هو أنه كان لا بد من ضرب أحدهم في العالم العربي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولكن العراق كان أسهل».
لا أسلحة دمار شامل، ولا إيواء منظمات إرهابية، ولا تحرير ولا ديمقراطية، فكل هذه كانت محض ذرائع.
وكان تفكيك سوريا هدفا ثانياً، لكنه أفشل. وكانت مصر الجائزة الكبرى في نهاية المطاف، كما قالوا طويلاً وكثيراً، لكنها بقيت متماسكة بقوة إرثها التاريخي.
ما هو هزلي في السياسة لقي مصيره المحتوم، وجرت ثورات وانتفاضات لم يكتب لها أن تصل إلى أهدافها، واختُطفت في أول الطريق، أو أُدخلت الأنفاق المعتمة والاحترابات الأهلية والحروب بالوكالة.
يستلفت الانتباه في مراجعة ما جرى قدر الرهان الأمريكي على تيار الإسلام السياسي لملء فراغ السلطة عند إطاحة حلفائها السابقين.
وأفضى ذلك الرهان إلى اضطرابات وصدامات في أنحاء مختلفة من العالم العربي خشية أشباح الدولة الدينية.
وبعد عشرين سنة من الوعود المخاتلة والتجارب المجهضة والتجاذبات العرقية والمذهبية، لا يزال طلب الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة يتردد صداه من دون يأس في التيه العربي
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.