لعل نقطة البدء فى أى تقييم موضوعى لأداء إدارة بايدن خلال العام الأول هى، فى تقديرى، الميزانية العسكرية. فلا يمكن تحليل السياسة الداخلية ولا الخارجية دون أخذها فى الاعتبار.
فقد وافق الكونجرس على طلب الإدارة ميزانية عسكرية مقدارها 768 مليار دولار، وهو ما يعادل نصف الميزانية الأمريكية، وهو ما يعنى تمويل باقى الأولويات الأمريكية، بكافة موضوعاتها، عبر النصف الآخر. ففى أمريكا نوعان من الإنفاق الفيدرالى، أولهما هو ذلك الذى يُطلق عليه «الأحقيات»، أى البرامج الاجتماعية التى ما إن يشترك فيها المواطن، يحق له التمتع بمزاياها مدى الحياة، كبرنامجى المعاشات، والرعاية الطبية لكبار السن. ولذلك لا تملك الدولة السيطرة على ارتفاع تكلفة هذا النوع من البرامج والذى يأكل الجزء الأكبر من الميزانية الفيدرالية. أما النوع الثانى، الذى تملك فيه الدولة حرية الحركة، فتلتهم أكثر من نصفه الميزانية العسكرية التى تزداد باطراد.
ومن هنا، فإن المفارقة التى تستحق الاهتمام هى أن أكثر الداعمين لارتفاع الميزانية العسكرية هم أنفسهم الذين يعارضون الإنفاق الداخلى الضخم الذى تحتاجه البلاد والذى تقدم به جوزيف بايدن للكونجرس. وذلك الإنفاق العسكرى الذى طلبه بايدن بنفسه هو الذى يحد من قدرته على المناورة بشأن مشروعاته الداخلية حين يعارضه خصومه ويطالبون بالحد من تكلفتها.
والوقت الذى استنزفه ذلك الجدل أتى على ما تبقى من الوقت فصار سهلًا على خصوم الرئيس حرمانه من الإنجاز بخصوص مشروعى قانون حقوق التصويت اللذين يتوقف عليهما مستقبل حزبه أصلًا. فتقييد الجمهوريين فى الولايات حق الأقليات فى التصويت من شأنه أن يحرم الديمقراطيين، حزب الأقليات، من الفوز فى الانتخابات التشريعية فى نوفمبر، بل وفى أى انتخابات فيدرالية تالية، للكونجرس والرئاسة.
.. والميزانية العسكرية تعطى أيضًا صورة أكثر دقة للسياسة الخارجية فى عهد بايدن. فهى لاتزال تمثل الاستمرارية لا التغير. صحيح أن الولايات المتحدة انسحبت من أفغانستان، إلا أنها فرضت عليها عقوبات قاسية فى خضم كارثة إنسانية محققة. وهى تسعى للانسحاب من الشرق الأوسط دون أن يعنى ذلك نهاية الطابع الإمبراطورى ولا عسكرة سياستها الخارجية. فأمريكا تبنى لنفسها وجودًا عسكريًا قويًا فى آسيا لتطويق الصين، ما دفع الصين لزيادة ميزانيتها العسكرية فى سباق محموم بين القطبين. والسياسة الأمريكية فى أوروبا ليست استثناء من ذلك.
فالموقف المتوتر على الحدود بين روسيا وأوكرانيا ترجع جذوره لنقض الولايات المتحدة تعهدها لجورباتشوف عشية انهيار الاتحاد السوفيتى، بالامتناع عن التمدد العسكرى شرقًا عبر حلف الأطلنطى «ناتو». فقد تمددت العسكرة الغربية فى شرق أوروبا حتى وصلت لحدود روسيا نفسها فى رومانيا بل وفى أوكرانيا التى دعمتها أمريكا ضد روسيا، وأعلنت إدارة بايدن، قبل أيام، زيادة مساعداتها العسكرية.
ومن هنا، تقول روسيا إن وجودها العسكرى المكثف على الحدود استدعته مقتضيات أمنها القومى وتطالب بضمانات أمنية بعدم تمدد «ناتو»، وهو ما يرفضه الحلف. وفى خضم الأزمة الراهنة طلبت روسيا، مؤخرًا، بيانًا مكتوبًا، من أمريكا، حول وضع «ناتو» وموقفه، وهو ما وافقت الولايات المتحدة على تقديمه «بعد التشاور المكثف مع الحلفاء».
أما وقد صارت الانتخابات التشريعية الأمريكية على الأبواب، بينما يصر الجمهوريون على إفشال كل مشروعات بايدن الداخلية، يبقى السؤال متعلقًا بما إذا كان سيكرس جهوده لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها قبل الانتخابات، أم سيكرس وقته لإحراز تقدم ملموس فى السياسة الخارجية؟ وإن كنت أرجح أن يميل بايدن للخيار الأول.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.