أمريكا ليست مع إعادة النهضة إلى السلطة
صلاح الدين الجورشي
لا تزال التصريحات المتتالية لكبار المسؤولين الأمريكان المنتقدة للرئيس قيس سعيد تثير الجدل في تونس، ويساء فهمها وتأويلها من قبل الكثير من السياسيين والمثقفين والإعلاميين.
آخر هذه التصريحات، ما جاء على لسان وزير الدفاع “لويد أوستن” في الكلمة التي ألقاها أمام القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، إذ لعلها المرة الأولى التي يتوجه فيها وزير دفاع أمريكي بالنقد علنا لتونس بتلك الطريقة المباشرة والحادة نسبيا. لم يحصل ذلك مطلقا لا في عهد الرئيس بورقيبة ولا في عهد الرئيس ابن علي، كانت وزارة الخارجية هي التي تتعهد عند الأزمات بتوجيه رسائل عدم الرضا بطريقة دبلوماسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. أما اليوم، فقد اختلف الوضع والسياق، لقد توالت الانتقادات، وفي كل مرة يرد الرئيس سعيد بطريقة حادة، بلغت دعوة الممثلين الرسميين في السفارة الأمريكية لإعلامهم في ثلاث مناسبات برفض تونس لتلك التصريحات، وهو ما جعل أنصار الرئيس يطالبون برفض قبول السفير الجديد في حال التصويت عليه من قبل الكونجرس، بل وهناك من بلغ به عمى الألوان بالدعوة إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن.
لا بد من الاعتراف بأن رد وزير الدفاع الأمريكي لافت للانتباه لأنه يستبطن تهديدا غير مسبوق، لقد اعتبر ممارسات الرئيس سعيد بمنزلة “رياح معاكسة” للذين يدعمون الديمقراطية والحرية. واعتبر أن “حلم تونس بحكومة مستقلة أصبح في خطر”، وأعلن أمام جنود بلاده وامام الرأي العام الدولي بأن الولايات المتحدة “ملتزمة بدعم أصدقائها في تونس، الذين يحاولون إقامة نظام ديمقراطي منفتح”.
ليس فقط الرئيس سعيد وأنصاره وحدهم المستاؤون من الموقف الأمريكي، وإنما هناك رأي واسع الانتشار يزعم أصحابه بأن الإدارة الأمريكية الحالية تخطط لإعادة الإسلاميين إلى السلطة عن طريق الضغط على سعيد، وربما العمل على إبعاده من أجل تحقيق هذا الهدف. ويبني بعض هؤلاء فرضيتهم هذه بالاستناد على الادعاء بأن الأمريكيين هم الذين خططوا للإطاحة بالرئيس ابن علي، وهم الذين ساعدوا حركة النهضة على الوصول إلى السلطة بعد الثورة، وذلك ضمن رهانهم على حركات الإسلام السياسي بالمنطقة. وهم (أي الأمريكان) يراهنون حاليا من جديد على هذا “الجواد الخاسر”. يرفض هذا الطيف من النخبة التونسية التسليم بأن التخلص من الإسلاميين، يجب ألا يكون ثمنه حرمان هؤلاء من الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية لا تتجزأ، ولا تُمنح لطرف ويُحرم منها طرف آخر لم يعترض على قواعد اللعبة. فذلك من شأنه أن ينتج ديمقراطية مغشوشة تقوم على الانتهازية وتقسيط الحقوق والحريات، تجعل البعض يبنون امتيازاتهم على حساب خصومهم الذين يحولونهم إلى أعداء يجب التخلص منهم وإقصاؤهم. هذا السيناريو غير منتج، يجعل من الإسلاميين ضحايا تمنحهم شرعية العودة من بوابة الاضطهاد والنضال.
بالنسبة للأمريكان، أثبتت لهم التجربة أن حركة النهضة فشلت في إدارة الحكم، وهم ليسوا على استعداد لتقديم العون لهم من أجل إيصالهم إلى السلطة، لكنهم سيتعاملون معها إن اختارها التونسيون من جديد عبر تنظيم انتخابات حرة ونزيهة. وهو موقف سليم ومنطقي لا غبار عليه من الناحية السياسية؛ فصندوق الاقتراع يبقى الحكم لاكتساب الشرعية، وهو آلية الفرز الأساسية في اللعبة الديمقراطية. لهذا، لا يمكن انتقاد الأمريكان لمجرد كونهم يحاولون تذكيرنا بالحد الأدنى من قواعد التداول السلمي على السلطة، بعيدا عن العنف وسياسة الأمر الواقع. أمريكا لها مصالحها الاستراتيجية، قد يتقاطع ذلك مع مصالحنا الوطنية في تونس فندعمه، وقد يتعارض فنعمل على التصدي له في حدود إمكانياتنا والمرجعيات التي نعتمد عليها. من ذلك على سبيل المثال الحالات التالية: - وجوب الاعتراض عندما تحاول الإدارة الأمريكية أن تجرنا جرا إلى سياسات التطبيع مع إسرائيل. وهو أمر وارد، خاصة إذا عدنا إلى تصريحات السفير الأمريكي الجديد. في هذه الحالة، المطلوب من السلطة أن تتحصن بالرأي العام وبمختلف القوى السياسية والمدنية، المناهضة للتطبيع والمساندة للحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، إذ في ذلك ملجأ لكل نظام شعبي، خاصة إذا كان نظاما ديمقراطيا.
- عندما تحاول الإدارة الأمريكية دفع الجيش إلى الانقلاب على رئيس الدولة من أجل إبعاده واستبداله. وهي مسألة كثر الحديث عنها خلال الأشهر الأخيرة داخل تونس وحتى من خارجها، وهو سيناريو سيئ ومسيء للديمقراطية ولصورة تونس في العالم. ويستبعد أن يقبل الجيش بأن يلجأ إلى مثل هذا الاختيار، الذي ستعقبه تغييرات بنيوية خطيرة على طبيعة النظام، وعلى مستقبل المؤسسات والحياة المدنية في تونس. - عندما تلجأ أمريكا إلى تجويع الشعب التونسي، وتمنع عنه المساعدات بنيّة معاقبة النظام والعمل على إخضاعه وتطويعه بحجة استعادة الديمقراطية. هذه السياسة طبقت في عديد الدول، لكنها أفضت إلى نتائج كارثية، ولم تؤد في نهاية المطاف إلى ديمقراطية حقيقية. باستثناء هذه الاحتمالات، لا يمكن الاعتراض على سياسة دولة ما، سواء أكانت أمريكا أو غيرها، عندما تحاول أن تنصح أو تضغط أو تحذر نظاما، قد تشكل سياساته تهديدا للحريات والديمقراطية؛ لأن مثل هذا الخطاب من شأنه أن يتعارض مع نضالات الشعوب المتطلعة للحرية والعدالة.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.