لا يخلّف الإرهاب دماراً وأشلاء فقط، ولكنه يكشف في أحيان كثيرة عن حقائق صادمة تبعث على الحزن والمآسي بمقدار ما يولده سقوط الضحايا من ألم. واحدة من تلك الحقائق تقول إنه عندما يتعلق الأمر بالعالم الثالث أو الدول العربية والإسلامية يفقد الغرب موضوعيته، وينسى ما يبشر به من عدل ومساواة. الإعلام الغربي ليس فقط شاهداً على هذا الخلل الأخلاقي ولكنه أيضا مشارك فيه.
ليست هذه مرثية تنعى العدل الضائع، وليست صرخة مكلوم يؤلمه ضياع الحق وطمس الحقيقة، ولكنها خلاصة دراسة جادة نشرتها مجلة «نيشن» الأمريكية عن الموضوعية الغائبة في تغطية وسائل الإعلام الغربية للحوادث الإرهابية العام الماضي.
الدراسة كشفت الانحياز الصارخ والفج الذي يمارسه الإعلام الغربي في تغطيته للعمليات الإرهابية، بالإسهاب في تناول الحوادث التي تقع في الدول الغربية، مقابل الاهتمام المحدود وربما التجاهل التام، عندما تكون دولة من دول العالم الثالث هي الضحية.
ترجمت الدراسة هذا الخلل الإعلامي بأرقام محددة. وكشفت في الوقت نفسه عن أن العمليات الإرهابية تقع معظمها في دول إسلامية أو عربية أو نامية وليس في الغرب، ومن ثم فإن معظم الضحايا من العرب والمسلمين. الدراسة تقتصر على التغطية في وسائل الإعلام المقروءة فقط أي الورقية والإلكترونية وتحصر نطاق عملها في العام 2015 الذي شهد 334 حادثاً إرهابياً في أنحاء العالم. ووفقا للدراسة فإن نيجيريا جاءت في طليعة الدول التي عانت الإرهاب، وبلغ عدد ضحاياها 3193 قتيلاً أي أكثر من ضحايا هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة. الدولة الثانية كانت العراق وتكبدت 708 قتلى ثم سوريا 346 قتيلاً يليها أفغانستان 309، ثم مصر 298، واليمن 288 قتيلاً وبعدها باكستان 288 قتيلاً، والقائمة طويلة بعد ذلك.
الملاحظة المهمة هنا هي أن الدول الغربية لم تشهد في العام المنتهي سوى 21 حادثاً إرهابياً سقط فيها 246 قتيلاً. أي أن ضحايا الإرهاب لديها مجتمعة أقل من ضحاياه في دولة عربية أو إسلامية واحدة.
أما عن التغطية الصحفية لتلك الحوادث الإرهابية فهي الجزء الأكثر أهمية وتشويقاً في الدراسة، ويكشف عن ازدواجية مؤلمة في نظرة الإعلام لحياة الإنسان وقيمته في الغرب وفي غيره من دول العالم. والأرقام الواردة تنطق بهذه الحقيقة المريرة. على سبيل المثال وليس الحصر فإن الهجوم الشهير الذي تعرضت له باريس يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وأوقع 130 قتيلا لقي تغطية إعلامية مكثفة لم يحظ بها أي حادث آخر في العالم العربي أو الإسلامي، حيث نشر عنه في نفس اليوم أكثر من 21 ألف موضوع صحفي «أون لاين». المفارقة أن هذا الحادث تزامن مع هجومين إرهابيين في بغداد وبيروت، الأول منهما لم تزد عدد الموضوعات الصحفية التي تابعته على 392 موضوعاً، بينما ارتفع الرقم في الحالة اللبنانية إلى 1292 موضوعاً.
نفس الأمر حدث في واقعة أخرى هي الهجوم على جريدة شارلي إيبدو في باريس يوم 7 يناير 2015 وقتل فيه 12 شخصاً. فقد بلغ حجم التغطية الصحفية لهذا الهجوم أكثر من 22 ألف موضوع. وفي نفس اليوم قتل 38 شخصاً في انفجار في اليمن واقتصرت التغطية الإعلامية على 565 تقريراً صحفياً فقط، وهو ما يوضح الفارق الهائل في حجم الاهتمام الإعلامي بأي هجوم في الغرب مقارنة بأي عملية إرهابية في غيره من الدول حتى لو كان عدد ضحاياها أكبر بكثير.
بل إن التغطية الإعلامية العالمية تظل منحازة للغرب حتى لو لم يكن هناك ضحايا أصلا. والدليل الذي تسوقه الدراسة هي التغطية التى حظي بها هجومان: الأول كان في منطقة اويجني الفرنسية في أغسطس/آب ونال تغطية تزيد عشر مرات على تغطية انفجار اليمن الذي أشرنا إليه. الهجوم الآخر كان في لندن خلال ديسمبر/كانون الأول وكانت تغطيته أكبر بخمسة أضعاف انفجار اليمن، رغم أن العمليتين الأوروبيتين لم يسقط فيهما أي قتلى.
ويكشف المتوسط العام لعدد الضحايا الذي توصلت إليه الدراسة عن حجم الانحياز الإعلامي الذي يصل إلى حد التضليل من خلال المبالغة في كارثة الإرهاب الذي يتعرض له الغرب في حين أن جل ضحاياه من العرب والمسلمين ( إذا استثنينا نيجيريا). الأرقام التي تسردها الدراسة تقول إن متوسط عدد ضحايا الهجمات في الغرب هو 12 قتيلاً في كل عملية. بينما يرتفع هذا الرقم في حالة الدول النامية بما فيها العربية والإسلامية إلى 22 قتيلاً في المتوسط في كل حادث ( بالطبع لا يعني هذا سقوط هذا العدد في كل عملية ولكنها حصيلة قسمة عدد الضحايا الإجمالي على عدد العمليات الإرهابية كلها).
أما التغطية الإعلامية فقد أظهرت غياب التوازن في الاهتمام، حيث بلغ متوسط الموضوعات المنشورة عن كل حادث إرهابي في الدول النامية 1305 موضوعات. قفز هذا المتوسط قفزة هائلة في حالة الدول الغربية ليصل إلى 7788 موضوعاً لكل عملية إرهابية بمعدل 665 موضوعاً لكل قتيل. هذا يعني أن نصيب الدول النامية من الاهتمام الإعلامي بضحاياها يقل ست مرات عن الدول الغربية.
أي أن نصيب القتيل من التغطية الإعلامية في الدول الغربية يزيد 11 مرة على مثيله في العالم الثالث، والذي يبدو أنه قضي عليه أن يظل مظلوماً حياً وميتاً.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.