خلعت الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة حللها الدوليّة وبانت في بلادنا وكأنّها محليّة. نعم. تجاوز الاهتمام العربي والإسلامي الرسمي والشعبي كلّ الحدود والانقسامات جواباً على مع من نقف: دونالد ترامب أم جو بايدن.
يعود السبب المباشر إلى أثر الإعلام الشائع في تحريك الرأي العام وتشظّياته من السياسات الأميركيّة في العالم إبّان ولاية ترامب الأولى المثيرة.
وقد يعود إلى سلوك الدولة العظمى في تعاملها مع المنطقة في ظلّ تداعيات الهزّات القاسية المستمرّة عصفاً منذ سقوط بغداد في الـ 2003، وصولاً إلى مستقبل القدس وفلسطين وصفقة العصر ومناخات التطبيع المتقدّمة في الأجواء ومقدمات الأخبار وأسرار الصحف.
وقد يعود للاستعراضيّة المتدفّقة اللاصقة بشخصيّة الرئيس ترامب قبل ولايته الأولى وخلالها وتضجّ به حملاته الانتخابيّة الثانية والتي يمكنني اختصارها من كتابه المعنون «ترامب بلا قناع»: «الإنسان هو أكثر الحيوانات ميلاً إلى الشرّ، والحياة سلسلة من المعارك تنتهي بالنصر أو بالهزيمة فلا تسمح للناس باستغلالك لتؤمّن النصر الدائم». ص. 142 – 143.
كان ترامب مباشراً وفصيحاً في مدى انكفاء الولايات المتّحدة الأميركية وانخراطها في التحولات الهائلة المتسارعة التي تشهدها أنظمة الحكم في العالم ولو تحت عنوان أميركا أوّلاً، ولو أرجع هذا العنوان العالم إلى الانقسام التاريخي الحاد والخطير الذي جعل مستقبل العلاقات الدولية محفوفاً بالتوقّعات المتناقضة والأسئلة الصعبة التي تنتظر إجاباتها النهائية عبر الولاية الثانية المحتّمة له.
لو عقدنا مقارنة سريعة بين جو بايدن ودونالد ترامب لوقعنا على شخصيتين متباعدتي الأمزجة والرؤى والانتماءات والحظوظ والمسافات نافرة بين الرجلين:
1- ترامب شخصيّة حارة وحادّة وشعبيّة فاقعة. ترامب اسم لا تضبطه الأطر الحزبية الجمهورية أو غيرها. تتقدّمه صورته اللافتة ببذلاته الداكنة وربطات عنقه الحمراء الناريّة والصفراء وإبهاميه المرفوعين إلى فوق وهو المحاط قبل وأثناء وبعد رئاسته لأميركا بملكات الجمال والمظاهر الاستعراضية وبائع الأحلام في عالم الصفقات والتجارة العالميّة.
ترامب يهوى الإشاعات الجميلة وكأنّها لا تضرّ أبداً بصفتها تمكّنت منه أو تمكّن منها ناجحاً عبر الثروات والشقق والمطاعم والمكاتب والكازينوهات وناطحات السحاب والسياسات.
همّه مسكون بالسلطة الرابعة بإذكاء نيرانها وإثارتها بصفتها الكهرباء الاجتماعية التي يداريها الجميع، لكنّه دؤوب على إخضاعها المستحيل بدلاً من إخمادها وهو ما ينمّ، في تقديري، عن ذكاء خارق في فهم قوّة الإعلام المعاصرة كسلطةٍ أولى مفيدة عند تسخيرها لمصلحته إيجاباً أو سلباً لا فرق.
ليس القرّاء، ربّما على علمٍ بأنّ ماري آن ماكيلود هي والدة دونالد ترامب اسكتلندية الأصل من قرية متواضعة في جزيرة اسمها «تونغ»، كانت تعمل في تربية المواشي والصيد في الخلجان وجمع الفحم وأعشاب البحر سماداً وتنظيف أحشاء الأسماك الضخمة لمصلحة الشركات التجارية المستثمرة في الجزيرة، وعندما اتّخذت قرارها بالرحيل، وهي في الثامنة عشرة، سجّلت مهنتها «مساعدة منزلية» أي خادمة، قبل أن يسمح لها بالصعود إلى السفينة التي ستقلّها إلى أميركا لتتزوّج هناك من فريد ترامب حفيد حلاّق ألماني ويرزقا في الرابع من حزيران 1946، بابنهما الرابع دونالد الذي يقوده الحظ فينقش اسم عائلته عميقاً في سجلّ التاريخ وما ملكه من الثروات والعقارات الناطحات والطائرات والملكات والرئاسات بعدما تذوي أو تمّحي قصص أجداده من الذكريات في ألمانيا أو في اسكتلندا.
خرج ترامب الرضيع إذاً من رحم امرأة بسيطة كانت ترضى بالقليل، ولهذا جاءت حياته حافلة بكسب الضجيج والشهرة والثروات والمغامرات وممارسة السلطات بمختلف أوجهها تأكيداً منه على أنّ القليل ليس أفضل من الكثير على الإطلاق: قال: «إنّ من يرضى بالقليل من هذه الدنيا فهو غبي» ص. 266.
2- المرشّح جو بايدن محامٍ ولد قبل سنوات خمس من ترامب (20 تشرين الثاني 1942). شخصيّة ديمقراطية طموحة رزينة لكنّ الفواجع كانت من نصيبه البائس عبر مسرى حياته. كيف؟
بعد وقتٍ قصير من انتخابه في الـ 1972 عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي جاذباً إعجاب الأميركيين بكونه السيناتور المنتخب الأصغر عمراً في تاريخ أميركا، حتى عاجله القدر بوفاة زوجته وابنته بحادثة سير مروّعة، وأصيب ولده الأكبر «بو» وعمره سنتان مع شقيقه الأصغر، ما جعل بايدن ينسحب لحياته العائلية، واستمرّ الناخبون يختارونه عضواً في مجلس الشيوخ لستّ مرّاتٍ متتالية.
ومع أنّه تزوّج للمرّة الثانية في الـ1975، وترشّح للانتخابات الرئاسية في الـ 1988 و2008 ولم يحالفه الحظ فقد شغل منصب نائب الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما، لكنّه، زاهداً، بقي يتطلّع إلى تأمين مستقبل ولده «بو» الذي عمل مثله في المحاماة وشغل منصب المدّعي العام، لكن القدر خطفه بفاجعة إصابته بسرطان الدماغ وكان يتجهّز لخوض انتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية والده (31/5/2015).
ومهما جاءت النتيجة، إنّ ما تفرّقه الحظوظ والأقدار والصفات بين المرشحين تردم نتوءاته إسرائيل فيستمرّ المجرى السياسي واحداً.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.