<p>Edited by Louis Standish</p>
التدخل الإنساني والسياسة الخارجية الأميركية
المستقبل – السبت 25 حزيران 2005 – العدد 1958 – رأي و فكر – صفحة 21
علي فياض(*)
في جديد ملف الأزمة الكورية، ان الحكومة الأميركية قررت إرسال شحنة من المواد الغذائية قوامها خمسون الف طن، الى الخصم اللدود في كوريا الشمالية لمساعدة الشعب الكوري على مواجهة النقص الحاد في الغذاء الذي يهدد بخطر المجاعة!
ورغم “البعد الانساني” للخطورة الأميركية، الذي يستحق التنويه والذي تركز عليه الديبلوماسية الأميركية في ترويجها للإرسالية المقررة، فإن هذه المبادرة في الواقع، جاءت من حيث التوقيت والتكتيك بعد سلسلة من المفاوضات المكثّفة على المسارات الكورية ـ الكورية، والكورية ـ الصينية، والأميركية ـ الصينية ـ الكورية الهادفة إلى الخروج من المأزق الديبلوماسي الحالي، عبر تهدئة المخاوف الكورية من النوايا الأميركية واحتواء التهديدات الكورية المتواترة. وإعادة بيونغ يانغ الى جولة المفاوضات السداسية على طريق تسوية الأزمة النووية.
وعلى هذا، فإن هذه المبادرة الأميركية بالمساعدة المعلنة ولدت في نطاق معالجة الشروط والمتطلبات والاثمان، وفي إطار مظاهر النوايا الحسنة التي اسفرت عنها أو تطلبتها مفاوضات المسارات المعلنة، والقنوات الخلفية والصفقات السرية الدولية أكثر من كونها مساعدة انسانية خالصة لوجه الله اقتضتها نوازع الخير المتأصلة ومشاعر الاخوة الانسانية والرحمة البشرية لدى المسؤولين الأميركيين. ففي اللغة السياسية والديبلوماسية لواشنطن تتداخل تعبيرات المساعدة الانسانية والتدخل الانساني والمعونة الخارجية مع أهداف السياسة الخارجية ومقتضيات الأمن القومي، ومتطلبات العلاقات الدولية وضرورات الوجود العسكري والأمني عبر البحار.
ولعل ما يجري مع كوريا الشمالية اليوم، يذكرنا بالتاريخ “الانساني” للتدخل الأميركي في بلدان العالم الثالث بشكل خاص، وان طال في بعض الحالات بلدان أوروبية أصيبت بالكوارث الطبيعية والعسكرية والاقتصادية، فأصبحت بيئة مناسبة للحضور والتدخل والنفوذ الأميركي.
فالتدخل الانساني شكل أحد العناوين الرئيسة للسياسة الخارجية الأميركية منذ اعتماد واشنطن سياسة الباب المفتوح بعد عقود من العزلة والانغلاق، والانطلاق نحو العالم الخارجي مع نهاية القرن التاسع عشر، لكن التدخل الانساني في حقبة الحرب الباردة وضع في خدمة خطط الحرب على الشيوعية ومشاريع العزل والحصار للبلدان الاشتراكية وسياسة اليد الطولى ضد العواصم والمراكز والقوى المعادية للغرب.
وقد اتخذت المساعدات الانسانية في تلك الفترة مسارين، أولاً كمساعدات مباشرة في خدمة المجهود الحربي في بلدان المواجهة على الجبهات الأوروبية والآسيوية، وثانياً كمساعدات سرية عبر أجهزة المخابرات والمنظمات المدنية في البلدان غير الموالية في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، وقد ادت تلك المساعدات في معظم الحالات الى بناء نخب حاكمة واحزاب ومنظمات شبه عسكرية فاشية وفاسدة. واسست لديكتاتوريات قمعية بغيضة موالية لواشنطن.
لكن بعد انتهاء الحرب الباردة عاد “التدخل الانساني” ليحتل مكانته كاحدى ركائز السياسة الخارجية الأميركية الى جانب الحرب العسكرية (الغزو المسلح والعدوان الشامل والاحتلال المباشر والتهديد بالقوة) والحرب الديبلوماسية (تجيير القانون الدولي والهيمنة على المنظمة الدولية وانتهاك الشرعية الدولية والتلاعب بالمنظمات والقرارات والمواثيق الأممية) والحرب الاقتصادية (الحظر والعزل والمقاطعة والحصار) والحرب الإعلامية (التلاعب بالاخبار والمعلومات وحجب الحقائق الميدانية وخداع الرأي العام الخارجي وتضليل المجتمع الداخلي).
وقد جرى توظيف التدخل الانساني في أربعة مجالات، اما لخدمة الأهداف العسكرية مباشرة كمقدمات وذرائع وشعارات، أو لتعزيز الهيمنة الديبلوماسية عبر اغتصاب دور الأمم المتحدة ومنظمات الاغاثة الدولية أو للتأثير على سياسات الدول وتوجهات الحكومات وقرارات الزعماء المحليين، أو لتعزيز النفوز في المناطق والبحار والجزر الغنية والاستراتيجية، وقد عمل شعار التدخل الانساني في أكثر من بيئة وتحت أكثر من ذريعة فهو تارة تدخل انساني في مواجهة حروب الإبادة ومعارك الإلغاء ونزوح اللاجئين كما جرى في افريقيا، وتارة في مواجهة النظم الشمولية والديكتاتوريات الحاكمة كما جرى في آسيا وأوروبا، وتارة في مواجهة الكوارث الطبيعية والانهيارات الاقتصادية كما جرى في آسيا وافريقيا.
وفي كل ذلك شكلت المساعدات الانسانية مدخلاً الى التأثير في العلاقات بين الدول الإقليمية، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتأثير على السياسات الاقتصادية والمواقف الديبلوماسية، والدخول على خط التيارات والاحزاب والجماعات المحلية بما يهدد الاستقرار والأمن والاستقلال والسيادة بما يخدم تكتيكات وأهداف السياسة الأميركية، ولعل ما يجري اليوم في المنطقة العربية مثال واضح على كيفية استخدام “التدخل الانساني” لخدمة شعارات الفوضى البناءة، وتكريس الديموقراطية، وتأمين حقوق الانسان، وحماية الأقليات ومحاربة التطرف والأصولية، طالما ان الأمر يتعلق بالمصالح الأميركية وبالمفهوم الأميركي لهذه الشعارات وليس بالمصالح الحقيقية لشعوب المنطقة.
(*) كاتب فلسطيني
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.