ما بين ثقافة أميركا وسياستها
بقلم :د.منار الشوربجي
في مدينة سالزبورج النمساوية الجميلة انعقدت ندوة عنوانها «العولمة والثقافة الشعبية الأميركية» نظمها مركز الدراسات الأميركية التابع لمؤسسة سالزبورج العالمية المعروفة.
وقد حضر الندوة أكاديميون من عشرين دولة متخصصين في الدراسات الأميركية وينتمون لفروع العلم المختلفة من التاريخ والأدب للسياسة والإعلام والفنون. وقد دارت النقاشات حول التأثير الثقافي الأميركي حول العالم سواء كنا نتحدث عن السينما أو نعنى الماكدونالدز والجينز أو موسيقى الراب.
فأنت تمشى في شوارع القاهرة أو مانيلا فتجد مطاعم الماكدونالدز. وتفتح جهاز التليفزيون في موسكو أو بودابست فتشاهد أفلاما سينمائية أميركية ثم تسافر إلى طوكيو أو بكين فتسمتع لكلمات يابانية أو صينية تغنيها فرق محلية على إيقاعات موسيقى الراب الأميركية. والسؤال المحوري في كل ذلك هو كيف نفهم تلك الظاهرة وما دلالاتها وما تأثيرها على الثقافات المحلية.
دار جدل واسع في الندوة حول تحليل الظاهرة، وتركز في مجمله على أطروحات مدرستين فكريتين، الأولى مدرسة «الامبريالية الثقافية» والثانية مدرسة «الهجين الثقافي العالمي». أما المدرسة الأولى فتعتبر التأثير الثقافي الأميركي أحد أشكال الهيمنة الثقافية أو «الامبريالية» على الصعيد الثقافي. وهى ترى أن الثقافة الأميركية تتحول إلى «منتج» تتولى الترويج له وبيعه حول العالم شركات أميركية عملاقة تستطيع أن تصدره بأسعار يصعب على «المنتج» الثقافي المحلى منافسته أو الصمود في وجهه.
ويصدق ذلك على صناعة السينما الأميركية مثلما يصدق على الوجبات السريعة الأمر الذي يؤدى إلى تنميط واسع للذوق العالمي وانحسار الثقافات المحلية التي تنقرض بعض مكوناتها مع مرور الوقت.
أما مدرسة «الثقافة العالمية الهجين«، فهي ترفض فكرة الهيمنة الثقافية الأميركية وتنطلق في ذلك من إعطاء اهتمام أكبر لدور المتلقي. ويرى أنصار هذه المدرسة أن المتلقي في أبوظبي أو ريو دي جنيرو ليس ضحية سلبية وانما هو فاعل رئيسي يضفى من نفسه على ما يتلقى. فموسيقى الراب مثلا يتم استقبالها بأشكال مختلفة في سياقات محلية متباينة فيتم إعادة إنتاج معناها محليا بما يناسب الواقع الثقافي والاجتماعي. ومن هنا ينتج عن تلك العملية الحية ولادة ثقافة جديدة تماما هي ثقافة عالمية «هجين» بين الثقافة الوافدة والثقافات المحلية.
والحقيقة أن أيا من أطروحات المدرستين ليس مقنعا تماما إذ تطرح كل منهما أسئلة أكثر مما تقدم من إجابات. ولعل الخلل المبدئي الذي تعانى منه المدرستان معا هو أنهما لا تفرقان بين المكونات الثقافية الأميركية المختلفة. فالماكدونالدز والجينز مثلهما مثل موسيقى الجاز ذات البعد التاريخي والسياسي المركب وصناعة السينما في تأثيرها الثقافي تعامل مثل تأثير منتجات كوكاكولا!.
ورغم أن مدرسة «الامبريالية الثقافية» هي الأكثر تماسكا في أفكارها إلا أنها أيضا تركز ربما بالكامل على دور الرأسمالية في صناعة الهيمنة الثقافية وتغفل جانبا آخر مهما. صحيح أن هناك شركات عملاقة تقف وراء صناعة السينما الأميركية أو الماكدونالدز بل وحتى موسيقى الراب لكن كيف يمكن لهذا الدور أن يفسر مثلا نشوء فرق محلية حول العالم تنتج موسيقى الراب وتعزفها وتؤلف كلمات لأغنياتها باللغات المحلية؟ لابد أن هناك شيئا ما يتعلق بالموسيقى نفسها يضفى عليها جاذبية ما.
ولعل مصدر تلك الجاذبية يعود إلى أن موسيقى الراب مثلا تتسم بدرجة عالية من البساطة التي تسمح بإنتاجها في سياقات محلية مختلفة دون تقنيات مركبة ولا حرفية عالية حتى أنه يمكن إنتاجها خارج الاستديوهات المجهزة.
والتركيز على دور الشركات الكبرى لا يسمح برؤية ذلك البعد المهم. بعبارة أخرى، فإن طبيعة موسيقى الراب قد تحرر الشباب من أسر الشركات العملاقة وهو العكس بالضبط مما تركز عليه هذه المدرسة. لكن موسيقى الراب نفسها تؤدى من ناحية أخرى إلى عولمة التبسيط إذا جاز التعبير! وهو ما يؤكد من جديد أنه لا يجوز معاملة مكونات الثقافة الأميركية كلها على قدم المساواة.
لكن مدرسة الثقافة العالمية الهجين تثير في الحقيقة من المشكلات النظرية أكثر من مدرسة الامبريالية الثقافية. عبرت في إحدى جلسات الندوة عن تحفظاتي على جوهر فكر هذه المدرسة ولم أسمع من أنصارها إجابات شافية. قلت أنه لا يجوز الحديث بهذه الثقة عن «ثقافة عالمية هجين» إذا كانت الولايات المتحدة نفسها مستثناة من ذلك. فأميركا التي تنتج الثقافة التي يستهلكها العالم منكفئة على ذاتها منعزلة عن ثقافات العالم. فكم من الأميركيين يستمعون للموسيقى العربية أو التركية أو يشاهدون السينما الهندية أو يقرأون الأدب الروسي؟
طوال الندوة، كان الجانب الوحيد الذي أجمع عليه المشاركون هو التأثير الطاغي للثقافة الأميركية، لكن أولئك المشاركين اختلفوا حول تحليل الظاهرة.
كاتبة مصرية
manarmes@yahoo.com
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.