د.حسن نافعة يكتب: قراءة فى خطاب أوباما عن حالة الاتحاد
يعد خطاب «حالة الاتحاد»، الذى يلقيه رئيس الولايات المتحدة أمام الكونجرس فى شهر يناير من كل عام، إحدى أهم السمات التى تميز النظام الأمريكى. وقد انتظم هذا التقليد منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية واستقر ليصبح جزءاً من آليات عمل النظام السياسى نفسه. وقد توخى هذا التقليد الحميد تحقيق هدف كبير وهو إلزام الرئيس بتقديم «كشف حساب» دورى للأمة يوضح فيه ما أنجزه خلال عام من ولايته، ويستعرض أهم الصعوبات التى واجهته أو حالت دون تمكنه من تحقيق وعوده، ويكشف عن خططه ومشروعاته للمرحلة المقبلة ثم إتاحة الفرصة لطرحها للنقاش العام.
لذا من الطبيعى أن تهتم وسائل الإعلام المحلية والأجنبية بهذا الحدث الكبير، ومن الطبيعى أيضاً أن يتضاعف الاهتمام به مع مقدم كل سيد جديد للبيت الأبيض. إذ يعد الخطاب الأول عن حالة الاتحاد لكل رئيس أمريكى جديد بمثابة مرصد أو معمل لاختبار قدراته القيادية الحقيقية ولقياس حجم الهوة بين وعود يسهل إطلاقها بسخاء إبان الحملات الانتخابية وحجم الانجازات الفعلية على الأرض!
غير أن خطاب الاتحاد الذى ألقاه أوباما يوم ٢٧ يناير الماضى كان له مذاق خاص وطعم مختلف عن معظم ما سبقه، وذلك لسببين رئيسيين:
الأول: أن فوز أوباما بمقعد الرئاسة فى الولايات المتحدة لم يكن حدثا عاديا وإنما كان حدثاً تاريخياً بكل معنى الكلمة. فهو أول رئيس أمريكى من أصول أفريقية وإسلامية، وتولى السلطة فى لحظة مفصلية فى تاريخ الولايات المتحدة بدا فيها مشروع المحافظين الجدد فى حالة تصدع كامل ويوشك على الانهيار.
ولأن أوباما حظى خلال حملة الانتخابات الرئاسية التى حملته إلى البيت الأبيض بكاريزما هائلة مكّنته من كسب ثقة الناخبين بسهولة ويسر، رغم أصوله العرقية والدينية، فقد رأى فيه ملايين البشر فى جميع أنحاء العالم زعيما منقذاً، بل الرجل الذى اختارته العناية ليقود العالم إلى بر الأمان فى مرحلة بالغة الحساسة من مراحل تطور النظام الدولى.
الثانى: أن أداء أوباما خلال عامه الأول جاء أقل من التوقعات ومخيبا لآمال الكثيرين فى الداخل والخارج إلى الدرجة التى أدت إلى تدهور شعبيته إلى أقل من ٥٠%. وفى سياق هذا الانهيار راح العالم يتساءل عن الفروق الجوهرية بين سياساته وسياسات سلفه بوش، خصوصا فى مجال السياسة الخارجية.
كان من الطبيعى، فى ظل هذا التحول الكبير الذى طرأ على صورة أوباما لدى جماهير كانت قد وضعت آمالها فيه، أن يترقب المحللون فى مختلف أنحاء العالم خطابه الأول عن «حالة الاتحاد» وأن يضعوه تحت المجهر لعلهم يستطيعون التعرف بشكل أفضل على الطريقة التى يرى بها أوباما الحاكم نفسه وبلاده والعالم بعد عام فى البيت الأبيض كى يستنتجوا منها ما إذا كان الأمل فى قدرته على إحداث التغيير الذى كانوا يتطلعون إليه قد انتهى إلى غير رجعة أم أن الإنصاف يقتضى أن يلتمسوا له بعض العذر، بسبب ثقل التركة التى خلّفتها إدارة المحافظين الجدد على مدى ثمانى سنوات، وأن يمنحوه وقتا إضافيا قبل أن يحكموا عليه بشكل نهائى.
ثلاثة أمور رئيسية تلفت النظر فور الانتهاء من قراءة مدققة ومتعمقة لخطاب أوباما عن «حالة الاتحاد»:
الأمر الأول: يتعلق بتركيزه على قضايا الداخل، فالسياسة الخارجية وعلاقة الولايات المتحدة بالعالم، رغم انغماس الولايات المتحدة فى حربين كبيرتين تستنزفانها ماديا ومعنويا، لم تحتلا فى هذا الخطاب إلا حيزاً محدوداً جداً، من زاوية مدى تأثيرهما المباشر على الأمن الداخلى وعلى الحياة اليومية للمواطن الأمريكى.
الأمر الثانى: يتعلق بنغمة قلق عميق تفوح منه حول مستقبل ومكانة الولايات المتحدة فى العالم. فرغم حرص أوباما على أن يضمن خطابه فقرات مطولة يتحدث فيها عن ثقته التامة فى عبقرية الشعب الأمريكى وإصراره العنيد على أن يظل دوما فى المقدمة، فإن ذلك لم يستطع أن يخفى لديه شعورا عميقا بالقلق. ومن المثير للتأمل أن يبدو هذا القلق مرتبطا باهتزاز صورة النظام السياسى الأمريكى فى ذهن أوباما، وعدم الثقة فى مواءمة آلياته لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة، أكثر من ارتباطه بضخامة التحديات التى يواجهها الشعب الأمريكى أو ضعف تصميمه على مواجهتها.
الأمر الثالث: يتعلق بتجاهله التام لقضايا المنطقة العربية، خاصة ما يتعلق منها بالصراع العربى – الإسرائيلى وبالجهود الأمريكية للتوصل إلى تسوية سلمية لهذا الصراع. فقد وصل هذا التجاهل إلى حد جعل خطاب حالة الاتحاد عن هذا العام يخلو من مجرد ذكر كلمة «فلسطين» أو كلمة «الشرق الأوسط» أو حتى كلمة «إسرائيل». وهذا أمر يبدو بالغ الغرابة إذا ما تذكرنا أن كل رئيس أمريكى اعتاد منذ سنوات أن يضمن خطابه فقرة واحدة على الأقل تؤكد استمرار التزام الولايات المتحدة بأمن وتفوق إسرائيل جنباً إلى جنب مع حرصها على التوصل إلى تسوية سلمية للصراع.
وفى تقديرى أن لهذه الأبعاد الثلاث دلالات شديدة الأهمية، وربما الخطورة أيضا، ومن ثم تستحق أن نتوقف عندها بقدر أكبر من تحليل متعمق يستهدف سبر أغوارها، وذلك فى ضوء الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: تتعلق بدلالة تركيز أوباما على قضايا الداخل الأمريكى فى هذه اللحظة، وبالطريقة التى وردت فى خطابه تحديدا. فهذا التركيز لا يعكس، فى تقديرى، محاولة يائسة من جانب أوباما لتملق الناخب الأمريكى مع اقتراب موعد التجديد النصفى لمقاعد الكونجرس بقدر ما يعكس إحساس أوباما الشخصى بوطأة الأزمة، وقلقه من احتمال تدهور مكانة الولايات المتحدة فى النظام الدولى وتراجع قدرتها على التأثير الفعال فيه، ناهيك عن قيادته. يلفت النظر هنا تأكيد أوباما أكثر من مرة فى خطابه على تفوق الاقتصادات التى تعتمد على طاقة نظيفة، وأن الدول التى ستتمكن من بناء هذه الاقتصادات هى التى سيكون بمقدورها قيادة النظام الاقتصادى العالمى فى المستقبل، كما تلفت النظر إشارته الواضحة إلى الصين والهند وغيرهما من الدول التى تبدو، من وجهة نظره، فى وضع أفضل.
صحيح أن أوباما تحدث تفصيلا عن إجراءات كثيرة لإعادة وضع الاقتصاد الأمريكى على الطريق الصحيح، وعن خطط طموحة للاستثمار فى العديد من المجالات، خاصة فى ميدانى الطاقة والتعليم، وعن تصميم الشعب الأمريكى على أن يبقى فى المقدمة وأن تحتفظ بلاده بدورها القيادى فى النظام العالمى طوال القرن الواحد والعشرين، والذى يصر على أن يظل قرنا أمريكيا، إلا أن الإحساس بثقل الأزمة الراهنة يتجلى بوضوح من ثنايا السطور.
ويكفى أن نتأمل الأرقام التى وردت فى خطابه عن حجم الديون التى تراكمت على الولايات المتحدة وحجم العجز الراهن فى موازنتها، مقارنة بفائض كان قد بدأ يتحقق اعتبارا من عام ٢٠٠٠، وهى الأرقام التى استند إليها أوباما لتبرير قراره بتجميد زيادة الإنفاق فى معظم القطاعات، باستثناء بعض القطاعات الحيوية، لندرك ثقل إحساس أوباما بوطأة الأزمة الراهنة وتأثيرها على بلاده.
الملاحظة الثانية: تتعلق بدلالة شكوى تنضح بالمرارة من أوجه قصور عديدة فى النظام السياسى الأمريكى. فهذا النظام يبدو، من وجهة نظر أوباما، فى حالة انتخابات دائمة تزيد من قابليته للخضوع للمزايدات، ويعانى من ضغوط جماعات مصالح خاصة، أو حتى أجنبية، بسبب نفوذ وتأثير «لوبيات» متعددة على مراكز صنع القرار.
وهذه الشكوى لا تعكس، فى تقديرى، محاولة من جانب أوباما لتبرير عجزه عن إحداث التغيير الذى وعد به، بقدر ما تعبر عن صدمة شاب حديث العهد نسبياً بآليات صنع السياسة فى واشنطن وأقرب إلى تمثيل مصالح القطاعات الاجتماعية الأكثر تهميشا فى المجتمع الأمريكى. ويبدو أن هذه الصدمة جعلته ينتبه إلى حقيقة نظام سياسى أمريكى بدأ يراه بعيون مختلفة من أعلى قمة هرم السلطة، ليكتشف مجددا مدى التكلس الذى أصيب به هذا النظام والذى وصفه بعض من سبقوه بأنه يخضع لإملاءات مجمع عسكرى – صناعى مهيمن.
صحيح أن أوباما تحدث عن عزمه اتخاذ إجراءات للتقليل من نفوذ «اللوبيات» والحد من تأثيرها على مراكز صنع القرار الفيدرالى، لكنه وجد نفسه مضطراً فى النهاية للاعتراف، صراحة أو ضمنا، بأنه لن يستطيع أن يحكم دون مساعدة الحزب الجمهورى. من هنا نرى إشارة أوباما المتكررة فى الخطاب إلى حرصه على عقد لقاءات دورية مع المشرعين من الحزب الجمهورى وإفصاحه عن رغبته فى إيجاد آليات تنسيق بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى تساعد على سرعة إصدار التشريعات بما يتناسب مع تحديات المرحلة!
الملاحظة الثالثة: تتعلق بدلالة تجاهل أوباما كليا الصراع العربى – الإسرائيلى والاقتصار فى تناوله لما يجرى فى المنطقة على إشارة عابرة لخطورة الانتشار النووى وما يمثله من تهديد بالنسبة لأمن الولايات المتحدة والعالم وإعادة تأكيد عزمه على اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد إيران، إن هى تمادت فى عنادها وتشددها فى موضوع تخصيب اليورانيوم.
ولا يعكس هذا التجاهل، فى تقديرى، رغبة من جانب أوباما للتحلل من وعود سابقة بالسعى لإيجاد تسوية شاملة وعادلة للصراع العربى – الإسرائيلى على أساس حل الدولتين، بقدر ما يعكس اقتناعا بعدم توافر أوضاع محلية وإقليمية ودولية مواتية لإنضاج مثل هذه التسوية. فموازين القوى السياسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية لا تتيح له، من ناحية، ممارسة ضغط فعال على إسرائيل فى المرحلة الراهنة، وموازين القوى الإقليمية والدولية لا تساعده، من ناحية أخرى، على التوصل إلى تسوية قائمة على حلول وسط.
يبدو واضحاً، فى ضوء هذه الملاحظات الثلاث، أن أوباما يتجه بشكل حثيث نحو مفترق طرق، لن يستطيع أن يصل إليها قبل نهاية هذا العام، وتحديدا قبل انتخابات التجديد النصفى فى نوفمبر المقبل. فالوضع فى العراق وأفغانستان لا يبشر بخير، ويأمل أوباما فى أن يتمكن على الأقل من سحب قواته من العراق بحلول أغسطس المقبل، وأن يساعده هذا الإنجاز – إضافة إلى نجاح محتمل فى تمرير خطته للتأمين الصحى – على حسم انتخابات التجديد النصفى لصالحه وبالتالى تحسين وضعه الداخلى إلى درجة تمكنه من الإسراع بخطى التغيير بجسارة أكبر.
لكن هذا السيناريو لا يبدو مضموناً، فأوباما يدرك أن قوى اليمين فى الداخل الأمريكى بدأت تستعيد توازنها وتعيد ترتيب صفوفها بشكل أفضل، كما يدرك أن الوضع فى منطقة الشرق الأوسط يتجه نحو مزيد من التوتر، خصوصا أن لدى كل من إسرائيل وإيران أسبابا تدفعهما نحو التصعيد وليس التهدئة، لذا فالأرجح أن يسعى أوباما لكبح جماح الطرفين نحو التصعيد والحفاظ على التهدئة حتى إتمام الانسحاب من العراق والانتهاء من انتخابات التجديد النصفى، لكنه فى النهاية قد يعجز عن تحقيق هذا الهدف، خصوصا أن اليمين الأمريكى يسعى لتضييق الخناق عليه ودفعه نحو التصعيد فى مواجهة إيران، خدمة لإسرائيل، وهنا مكمن الخطورة.
خطاب حالة الاتحاد يُظهر ضعف أوباما وحيرته فى هذه اللحظة تحديدا، والشعور بالضعف قد يغرى بالتظاهر بالقوة.. لذا قد تصحو المنطقة والعالم فى أى لحظة على دقات طبول حرب سيكون الشرق الأوسط، مرة أخرى، هو مسرحها الرئيسى والوحيد.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.