Auctioning Off Palestine

<--

مزاد بيع فلسطين

محمد يوسف

إن تاريخ الغرب وأمريكا لم يشهد على مداه سلامًا غير «سلام الإذعان»، ومن ثم فإنهم لا يعرفون «السلام العادل».. وحالة العدل هى فقط التى تنشئ حالة السلام، وغير ذلك دجل وتزوير وابتزاز.. وإذا أخذنا شريحة من التاريخ طولها المائة عام الأخيرة منه، فسوف نجد أن الصراع الإمبراطورى الضارى بين كل من بريطانيا وفرنسا والذى استمر لأكثر من مائة عام سبقت عام 1904، لم يتوقف إلا فى ذلك العام، بعد أن قررت فيه الإمبراطوريتان اقتسام العالم بينهما، وإنهاء الاحتراب وإحلال «السلام»..

ورغم ذلك فإن العالم قد شهد خلال تلك الفترة نفسها، الحربين العالميتين الوحيدتين فى التاريخ، إضافة إلى عشرات الحروب الإقليمية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، بحيث لا يمكن الادعاء بأن عامًا واحدًا ـ خلال تلك المائة عام ـ مر دون عدوان أو قتل واقتتال أو سلب ونهب وتخريب، قام به الغرب وأمريكا ضد ثلاث قارات كاملة من قارات العالم الخمس، هى إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.

وكان لابد للإمبراطوريتين اللتين تتأهبان للخروج من التاريخ وهما بريطانيا وفرنسا، من أن تحاولا البحث عن عوامل تجدد وتطوير لاستمرار نفوذهما فى العالم، وتحديدًا فى منطقتنا العربية، باعتبارها واسطة العقد ومحور ارتكاز الطاقة والسيطرة على العالم، كما قال حاييم وايزمان نفسه فى المؤتمر الصهيونى العالمى بـ«مونتريال ـ كندا» عام 1948، لذلك صرح بلفور وزير الخارجية البريطانى بوعد إمبراطورى عام 1917 بإقامة «وطن قومى لليهود فى فلسطين» لإحكام السيطرة على الطريق إلى الهند جوهرة التاج البريطاني، إضافة إلى تحقيق السيطرة على قناة السويس قاعدة الارتكاز الأساسية للسياسة والاقتصاد والاتصال والحرب فى العالم.. كما كان للإمبراطورية التى تتأهب للدخول إلى التاريخ وهى الولايات المتحدة الأمريكية، أن تبدأ عصرها الإمبراطورى بضمان السيطرة على ذات المنطقة العربية، فكان أن أصدر الكونجرس الأمريكى قانونًا فى مارس 1922 بضرورة إقامة «وطن لليهود فى فلسطين» لذات الأسباب والدوافع والأطماع الإمبراطورية، ولكن من ناحية المصالح الإمبراطورية الأمريكية.. وإذا كان تصريح بلفور والقانون الأمريكى قد أسسا لنشأة ذلك الكيان الصهيوني، فإن «القانون الأمريكي» هو الأكثر جدية وخطورة من «التصريح البريطاني» الذى لا يعدو أن يكون خطابًا كتبه وزير للخارجية.. هذا إضافة إلى أن وايزمان نفسه قال فى مؤتمر مونتريال السابق الإشارة إليه: «ليس صحيحًا أن ما يشدنا إلى فلسطين أمور تتعلق بالعقيدة اليهودية، بل لأنها تتحكم فى مركز العالم، كما أن كميات البترول تحت «البحر الميت» تعادل خمسة أضعاف مثيلتها فى الأمريكتين، إضافة إلى المعادن النفيسة الأخري»، وأيضًا قال بن جوريون عام 1953 «إننى ملحد».. ومن المعروف أن كلاً من الأرجنتين وأوغندا كانت مرشحة فى مؤتمر «بازل ـ سويسرا» عام 1897 لأن تكون «وطنًا قوميا لليهود».. وقد تم تفضيل فلسطين للأسباب المتقدم ذكرها ليس إلا.

إن ذلك يضعنا أمام حقيقة أنه قد تم «تصنيع» إسرائيل للقيام بدور محدد، وهو حماية مصالح وأهداف المنظومة الاستعمارية قديمًا وحديثًا، سواء أكان ذلك لـ«فرنسا» أو لـ«بريطانيا» أو لـ«أمريكا».. وهذا الدور لا يتحقق إلا إذا تم زرع كيان غريب ليمنع اتصال مشرق الوطن العربى بغربه، ويقوم بدور كلب الحراسة القوى على ضفاف قناة السويس من ناحية، وعلى ضفاف بحيرة البترول العربى الهائلة من ناحية أخري.. وتلك القوة لذلك «الكلب الحارس» لا تتأتى إلا إذا اتخذ شكل «الاستعمار الاستيطانى العنصرى التوسعي» اقتداء بالحالة الاستعمارية التى أقامتها بريطانيا فى كل من الهند وجنوب إفريقيا، وتلك التى أقامتها فرنسا فى الجزائر، والثالثة التى أقامتها البرتغال فى موزمبيق، والرابعة التى مازالت أمريكا تقيمها فى القارة الأمريكية.

مما تقدم يصبح واضحًا أن إسرائيل ليست دولة، وليست مجتمعًا طبيعيا، وإنما هى دولة ومجتمع مصنوعان تم تحضيرهما فى «المعمل».. بمعنى توفير كل عناصر النجاح التجربة للحصول على نتائجها المستهدفة.. وكما أن التاريخ لم يشهد ـ ولو فى حالة واحدة ـ تراجعًا طوعيا حدث للظاهرة الاستعمارية، من حيث شبقها للعدوان والسيطرة والسلب والنهب لكل الطاقات والإمكانات والأوطان التى طالتها أيديها، إلا بالقوة المضادة التى تكسر موجات الإغارة الاستعمارية الفاجرة تلك، وترفضها وتقاومها.. وبالفعل فقد تمكنت حركة التحرر العالمية فى النهاية من إخراج كل من بريطانيا وفرنسا من التاريخ.. والأرجح أن المصير ذاته ينتظر الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني.. ذلك حكم التاريخ وحكمته، مهما حاولت الظاهرة الاستعمارية والصهيونية العالمية تأخير لحظة الانكسار والخروج من التاريخ إلى أطول مدة ممكنة.. ومن ثم فإنه لا يوجد فى إسرائيل فرد أو حزب أو منظومة، ناهيك عن حكومة، يمكن أن تتبنى السلام بمعناه العادل الذى لا يفهم العرب ولا يرضون بغيره سلامًا.. إضافة إلى أنه من غير المسموح أمريكيا، ومن وجهة نظر الرجعية العربية، بأن يفكر فرد أو حزب أو منظومة، ناهيك عن حكومة فى الوطن العربي، فى السلام بمعناه العادل الذى لا يفهم العرب ولا يرضون بغيره سلامًا!!.. ورغم ذلك يجرى الآن تهويد وعبرنة القدس وفلسطين كلها، بل وغلق ملف هذه القضية العربية المركزية نهائيا تحت سمع وبصر وصمت النظام السياسى العربي، إلى درجة أن نتنياهو لم يتردد فى أن يوجه فى مشهدين متتابعين إهانة بالغة، لذلك النظام السياسى العربي.. مرة حين أعلن عن استئناف بل زيادة حركة بناء المستوطنات فى القدس أثناء وجود نائب الرئيس الأمريكى فيها.. ومرة حين اتبع ذلك بأن وقف فى مؤتمر «إيباك» فى عقر الدار الأمريكية ليعلن «أن القدس ليست مستوطنة وإنما هى عاصمة أبدية لإسرائيل».. ورغم ذلك لم يواجه ما فعله وأعلنه بأى رد فعل أو اعتراض أو حتى امتعاض رسمى من ذلك النظام السياسى العربي.. والمشهد الثالث، الأكثر إهانة، أن مؤتمر القمة العربية الأخير فى ليبيا قد سمع وشاهده من مواقع المتفرجين الصامتين، إضافة إلى أنه وفى مجال بحثه عن «كفيل» أو «ولي» قد ناقش اقتراح «تشكيل مجموعة إقليمية» تضم ـ إلى جانب العرب ـ تركيا وإيران حاليا، وإسرائيل إذا توقفت عن بناء المستوطنات؟!.. الغريب أن هذا الكلام مطروح سياسيا فى المنطقة منذ أكثر من خمس سنوات!!

إن «مزاد بيع فلسطين» هو رأس القضية وصلبها، ولا يمكن أن توقفه آلاف التبريرات والتصريحات والاتفاقات والمعاهدات والمؤتمرات، لكن الذى يوقفه هو مقاومة هذا «المزاد» وتدميره.. لذلك فإن التساؤل حول حكومة السفاح الصهيونى العدوانى الاستيطانى التوسعى بنيامين نتنياهو: هل هى حكومة حرب أم حكومة سلام؟.. نقول إن هذا السؤال/التساؤل يعتبر تكريمًا لهذا الصهيونى الفاجر، لمجرد طرح احتمال أن يكون رجل سلام، مهما كانت نسبة هذا الاحتمال غير الموجود أصلاً.. كما أن ذات السؤال/التساؤل يعتبر إهانة للعقل وللواقع وللكرامة العربية.. لأن التساؤل يفترض أننا نقف خارج واقعنا متفرجين لا فاعلين، أو يفترض أننا يمكن أن نخضع حقوقنا وأراضينا وأوطاننا وكرامتنا للمناقشة أو نتفاوض عليها، وأيا من الحالين هو الإهانة والمهانة ولا أقل.

تلك إطلالة على جزء من ملف الكيان الصهيونى الذى حرر أوراقه الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية، والذى يقف النظام السياسى العربى مستلبًا وعاجزًا أمامه، رغم ما يملك من إمكانات وقوى وطاقات دون حصر.. وهو ذات الملف الذى قد نتركه للأجيال القادمة التى هى ـ بالقطع ـ من تمتلك مفاتيح الجسارة للتعامل معه.. كما أنها التى سوف ترفض وتقاوم وتنتقم وتنتصر.. وترد الإهانة.

About this publication