The United States Entangled in Moral Crisis

<--

صُدم العالم بالجريمة الجديدة التي إرتكبتها إسرائيل على أشخاص مدنيين خارج إقليم هذه الدولة، التي هي في الأصل كيان تقوده أيديولوجية عنصرية ذات أبعاد منافية للإنسانية ألا وهي الصهيونية. وكانت الأمم المتحدة على حق في فترة السبعينات من القرن الماضي لما إعتمدت توصية مفادها أن الصهيونية ضرب من ضروب العنصرية. لقد تعودت إسرائيل على قتل المدنيين. لكن في السابق لم تكن الجرائم الإسرائيلية تصل إلى الرأي العام في العالم إلا عن طريق وسائل الإعلام المكتوبة أو في بعض النشرات الإخبارية متى أمكن تصوير وقائع في الميدان. غير أن تحولا حقيقيا حدث مع ما حصل في صبرا وشاتيلا في بيروت حيث تمكنت وسائل الإعلام المرئية لأول مرة من نقل هول ما حصل هناك. فشاهد العالم البشاعة التي تم إقترافها من قبل إسرائيل ونجمها آنذاك أرييل شارون وإن كانت بعض العناصر اللبنانية المتحالفة مع العدو الصهيوني متورطة أيضا في الجريمة. كانت «صبرا وشاتيلا» جريمة كبرى أيضا. ومما لاشك بأن عدم إتخاذ الإجراءات اللازمة حيال مرتكبي تلك الجريمة والمورطين فيها وتقاعس الأجهزة الدولية وخاصة مجلس الأمن عن ذلك، شجع المسؤولين الإسرائيليين على السير قدما في إتجاه إرتكاب مزيد من الإعتداءات الوحشية المستهدفة للمدنيين. نعرف أنه بعد وقت من واقعة «صبرا وشاتيلا» قُدمت قضايا ضد شارون ومن معه أمام القضاء الجنائي البلجيكي. وكاد هذا القضاء ينجز مهمة تاريخية إلا أن القضية جاءت في وقت صار فيه النفوذ الصهيوني في أوروبا، فضلا عما هو عليه في الولايات المتحدة، كأقوى ما يكون. وتمكن ما يطلق عليه «باللوبي الصهيوني» وعلى أساس من «الجسر» الذي تم بناؤه بين نيويورك وبلجيكا من إيقاف القضية بعد أن وصلت إلى دائرة الإتهام لدى محكمة الإستئناف في بروكسل. أكثر من ذلك أمكن للنفوذ الصهيوني أن يحمل المشرع البلجيكي على تغيير القانون الذي أرسى ما يسمى بالإختصاص العالميcompetence universel بشكل كان يعد مثاليا وإفراغه من جانب هام من مضمونه على نحو جعل شارون ومجرمي الحرب عموما، ومجرمين ضد الإنسانية معه خارج نطاق تطبيق ذلك القانون. فكان ما حصل في بلجيكا إنتصارا وإن كان محدودا، للإجرام الصهيوني. وما من شك بأن مثل تلك «المكاسب» التي حققتها إسرائيل التي «ركعت» الحكومة والبرلمان البلجيكيين دعمت شعور إسرائيل بعلويتها كما أكدت من خلال ما أمكن لها تحقيقه في بلجيكا، أن أوروبا كلها خاضعة للنفوذ الصهيوني. ومثل هذا الأمر ثابت وتؤكده مواقف حكومات الدول الأوروبية الحالية تجاه إسرائيل إذ هي تغض الطرف عن كل الخرُوقات والجرائم التي ترتكبها إسرائيل وإن كانت في حق مدنيين عُزل. ولا يترك قادة كالسيدة ميركل رئيسة الحكومة الألمانية أو السيد ساركوزي رئيس جمهورية فرنسا وغيرهما من رؤساء الحكومات والدول في أوروبا فرصة إلا ويعبرون فيها، كما يفعل رؤساء الولايات المتحدة عن ولائهم لإسرائيل بدعوى حرصهم على أمنها، وكأن الأمن الإنساني الوحيد المهدد أو الذي يجب الحرص عليه هو أمن إسرائيل في حين أن إسرائيل هي التي تهدد الأمن الإنساني في منطقة بأكملها من العالم، وهي الوحيدة التي تمعن في خرْق القانون الدولي والضرب بالحقوق الإنسانية عرض الحائط. إن انحناء الحكومات وكذلك البرلمانات الأوروبية أمام إسرائيل إضافة إلى وقوف الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى جانب إسرائيل حتى وإن إرتكبت أكبر الجرائم وأبشعها هو الذي يشجع إسرائيل على التمادي في سلوكها الوحشي وغير الحضاري وغير الإنساني. فلو لم تكن إسرائيل متأكدة من أن حكومات دول غربية ستتستر عليها، وأن آليات القانون الدولي تعطل من أجلها وأن مجلس الأمن موظف لحمايتها وأن القوة العسكرية الأمريكية لابد أن تقف معها عند الإقتضاء، لما أمعنت في سلوكها الإجرامي. ما حصل لـ «أسطول الحرية» سيبقى وصمة من بين وصمات عار كثيرة على جبين الكيان الصهيوني الذي سيبقى منبوذا لا فقط في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي وإنما في بقاع أخرى عدة من العالم. يقال عن إسرائيل أنها تستمد قوتها أيضا من عقلها الإستراتيجي وهذا في رأيي صحيح. ولكن الغرُور الصهيوني يجعل الإستراتيجية الإسرائيلية تسير نحو الإفلاس لأنها لم تعرف كيف تتعامل مع البيئة التي زرعت فيها. والأخطر من ذلك بالنسبة إلى الإسرائيليين أنهم بقدر ما إستثمروا في إستشراف المستقبل بقدر ما كان إستشرافهم خاطئا وهم لا يعلمون. ولعل أبرز سؤال يجب على الإسرائيليين أن يطرحوه على أنفسهم هو أي مستقبل لكيانهم في فضاء مارسوا فيه الإرهاب بإستمرار وزرعوا فيه القتل والدمار ولم يتميزوا فيه إلا بالتصرفات الإجرامية المتواصلة. ثم إن إمعان إسرائيل في جرائمها التي لا تنتهي جعل العالم كله بإستثناء حلفائها يقتنع بأنها تخرب القانون الدولي وأنها مصدر تهديد حقيقي للأمن والسلم في العالم. وسبق أن أكد ذلك استفتاء تم إجراؤه في المجتمعات الأوروبية. أما «الديموقراطية» التي يقال أنها تميز الدولة الإسرائيلية فهي ديموقراطية من نوع خاص. والغريب في الأمر، عدا المُرشحين العرب للكنيست، أن المورطين في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية هم الأكثر حظا في الفوز في الإنتخابات التشريعية الإسرائيلية، التي تنبثق منها الحكومات، بحكم أن النظام السياسي الإسرائيلي من النوع البرلماني. ولم يحصل أن ترأس حكومة من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من لم يكن مورطا في إرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فعن أية ديموقراطية يتحدثون؟إن إسرائيل تعيش خارج معايير هذا الزمن الذي يفترض أنه زمن القانون الدولي المؤسس على مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان والسلام وحق الشعوب في تقرير مصيرها ونهاية الإستعمار والإحتلال. وما إقترفته إزاء «أسطول الحرية» هو حلقة من حلقات ذلك الكيان الدموي (لنتذكر ما حصل في جنين وما حصل في غزة ولازال يحصل). وما من شك بأن ما إرتكبته إسرائيل من جريمة ضد الإنسانية هذه المرة في أعالي البحار التي جعلها القانون الدولي فضاء ورمزا للإنعتاق وللحرية، سيعود عليها بالوبال مهما وقفت معها وحمتها الدول الغربية التي ورطتها إسرائيل في أزمة أخلاقية لا مثيل لها، وجعلتها بصورة أو بأخرى شريكة في جرائمها التي تنبذها المجتمعات والتي تجعل كل من يسعى إلى تبريرها أو التستر عليها عدوا لا فقط للقانون، وإنما أيضا للحضارة وللقيم وللحقوق الإنسانية.

* أستاذ القانون الدولي في الجامعة التونسية

About this publication