“على اليهود أن يخرجوا من فلسطين وأن يعودوا من حيث أتوا”. هذا ما صرحت به الصحافية المخضرمة هيلين توماس، عميدة مجموعة واشنطن الإعلامية أواخر الشهر الماضي. وقد لخصت ما يرغب أكثرنا قوله ويعرف أنه الحق، غير أننا نكتمه خوفاً من التبعات، لأنه يتعارض مع الموقف العربي الرسمي المتفق عليه والمعلن فيما يعرف باسم مبادرة السلام العربية .
ولمن لا يعرف هيلين توماس، فإنها أقدم مراسلة في البيت الأبيض. وكانت قد بدأت العمل فيه منذ ولاية الرئيس الأميركي جون إف كنيدي في الستينيات حتى استقالتها يوم الاثنين الماضي بعد ردود الفعل الغاضبة عقب تصريحاتها عن إسرائيل. ويبدو أنها اختارت ختاماً حسناً لحياتها المهنية بالتصريح برأيها المذكور، ورمت بالدبلوماسية حيث ينبغي، لتقول الحق عند سلطان جائر.
ليس بالوسع قول أي شيء في أميركا.صحيح أنه يمكنك انتقاد الرئيس الأميركي وقدح كل المقامات، لكن الذي لا يغتفر هناك هو المساس بإسرائيل أو بروايتها. ويكفي أن يتهم الشخص هناك بمعاداة السامية أو بكراهية اليهود حتى يصبح هدفاً لجحيم حملات التشهير والاستهداف حد المقاضاة والتهديد بالقتل. ولا تأتي الملاحقة مباشرة من الدولة التي يسيطر أتباع اللوبي اليهودي الصهيوني على الكثير من مراكزها، وإنما من المنظمات المتنفذة التي تشكل اللوبي الإسرائيلي الفضفاض الذي يعمل من الظلال. لكن ذلك اللوبي يبدو أنه يكتم أيضاً على أصواتنا نحن.
وإذن، غامرت هيلين توماس بمعاداة كل هؤلاء غير آسفة كما يبدو، بعد 90 سنة تقريباً من اختبار الحياة، والتي قضت نصفها تقريباً في بيت الخبرة السياسية الأهم في العالم. ولا يبدو أنها قد خلصت إلى رأيها في قضية اليهود بسبب جذورها اللبنانية، وإنما بالاحتكام إلى المنطق البسيط، فقالت لسائلها الحاخام ديفيد نيسينوف: “تذكر. هؤلاء (الفلسطينيون) يعيشون تحت الاحتلال وهذا وطنهم. هذه ليست ألمانيا ولا بولندا. ليعد اليهود بحق الجحيم إلى أوطانهم في بولندا وألمانيا، وإلى الولايات المتحدة، أو أي مكان آخر”.
من أعنف مهاجمي هيلين، كان آري فليتشر، الناطق بلسان البيت الأبيض خلال فترة الرئيس السابق جورج بوش، الذي قدم بياناً إلى محطة “سي. إن. إن”، قال فيه: ” إن ما قالته (هيلين) سيئ كالقول بأن على جميع السود مغادرة أميركا والعودة إلى إفريقيا”. ولم يتذكر السيد فليتشر أن السود لم يأتوا إلى أميركا على ظهر دبابة قاتلة، وإنما جلبهم أجداده من أفريقيا عبيداً مسترقين محاطي الأعناق بالأطواق. ونحن لم نجلب اليهود عبيدا ثم قررنا الآن أننا لم نعد نريدهم، ولا هم أتوا ضيوفا ليقيموا بيننا في سلام، وإنما جاؤونا بنية قتلنا كما فعل أجداد فلتشر بالهنود الحمر. وإذا جئتني بهدف إقصائي، فلا أفهم كيف لا يكون من الأخلاقي تماما أن أطالب بإقصائك، وليس بقتلك، وإنما بمجرد المطالبة بعودتك من حيث أتيت.
بمقارنة خوفنا من القول بعدم أحقية اليهود في فلسطين التاريخية بما قالته هيلين، يصاب المرء بالغثيان من شدة ضيقنا بالحقيقة وخوفنا منها. ويستهجن هذا الكم المخجل من التنازلات بدواعي البراغماتية السياسية، حتى من طرف من يدعون تمثيل الفلسطينيين. وليس هناك ما يقتضي التناقض بين البراغماتية وبين خدمة الهدف السياسي، إذا لم يتم التخلي عن المبادئ. أما الاعتراف بحق اليهود في
78 % من فلسطين التاريخية، فليس هو نوع التنازل الذي يساوي دولة البانتوستان، أو “الدجاج المقلي” المعروضة على الفلسطينيين. وأتساءل: ما الذي بقي لدينا لنخسره إذا قلنا ما قالته هيلين توماس؟ هل سيقيلوننا جميعا من مناصبنا في بيوتنا البيض فنخسر الامتيازات؟ وأي امتيازات سنخسر غير الرايات البيض الهوان؟
إذا كان هناك من يخالطه أدنى اعتقاد بأن ما قالته هلين توماس عن اليهود صحيح بالمطلق، فليرجمني. وإذا كنا نعرف في دواخلنا بأن ما قالته هو الحق، فإننا نستحق الرجم إن لم نقله. ولأنها قالت ما لا يجرؤ أغلبنا على قوله وهي ليست صاحبة قضية، أوجه من القلب ألف شكر لهيلين توماس، ولكل الذين يقولون الحقيقة في وجه السلطان.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.