صدر العديد من الدراسات والتقارير داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها مؤخرا يؤكد نهاية حقبة حقوق الإنسان من حيث أن الإدارة الحالية أخذت تفصل نفسها عن سياسة تشجيع الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط
. كما تستشهد مقالات في الواشنطن بوست والنيوزويك بالعديد من الأمثلة التي تظهر تحول الإدارة نحو التطبيع في واقعها السياسي, بمعني التركيز علي الحفاظ علي السلطة بدلا من تشجيع المباديء, مما يشكل حسب الزعم نهاية حقبة حقوق الانسان وحلول حقبة من الواقعية لم يشهد لها مثيل منذ زمن بعيد.
فهل الإصلاحات الديمقراطية ومباديء حقوق الإنسان في موقع ثانوي بالنسبة للرئيس الأمريكي وإدارته ؟
مما لاشك فيه أن الرئيس أوباما أحدث تحسنا ملحوظا في الخطاب الرئاسي حول حقوق الإنسان والديمقراطية, مقارنة مع سلفه الرئيس بوش. ففي سلسلة من الخطابات التي ألقاها حول العالم, قدم أوباما رؤية قوية ومقنعة, حيث استخدم كل الكلمات المناسبة للتشديد علي رأيه بأن مشاغل حقوق الانسان والديمقراطية هما عنصران جوهريان في سياسته الخارجية.
ففي خطابه في القاهرة في يونيو2009, سلط الضوء علي أهمية حرية المعتقد الديني وحقوق المرأة, كما غابت مصطلحات الصراع والضغط والثنائيات التقليدية( محور الشر والخير) لتحل محلها مفردات أخري من قبيل الشراكة والتكامل والتصالح وتشجيع الديمقراطية.
لكن يبدو أن عمل إدارة أوباما من أجل حمل بعض الحكومات المتشددة علي احترام حقوق الإنسان والديمقراطية متهاون في بعض الحالات, مما يثير مخاوف من أن الولايات المتحدة لاتزال تطبق معايير مزدوجة عندما يتعلق الأمر بمواجهة الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان من جانب حلفائها المهمين. ففيما يخص النزاع الفلسطيني/ الإسرائيلي, كان سجل الإدارة متفاوتا. فقد أعلن الرئيس أوباما إن الولايات المتحدة لا يمكنها قبول شرعية المستوطنات الاسرائيلية المستمرة, لكن الإدارة تراجعت عن إصرارها علي وقف اسرائيل كل عمليات البناء الجديدة.
في الواقع, يعتبر هذا النزاع محك الاختبار للسياسة الأمريكية في مجال حقوق الإنسان, خاصة أن لدي إسرائيل مجموعة فريدة من التهديدات الأمنية والطموحات أفرزت سياسات لا تتفق مع أجندة أوباما الأوسع, ومن بينها سعيه إلي وقف انتشار الأسلحة النووية, وإصلاح العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي.
وفي خطاب آخر للرئيس الأمريكي في أكرا في يوليو2009, قال لابد من الشفافية وحكم القانون وممارسات سليمة للديمقراطية, كما أضاف بأن أفريقيا ليست في حاجة إلي رجال أقوياء بل الي مؤسسات قوية, مثل قوات شرطة نزيهة, وبرلمان قوي, وصحافة مستقلة. غير أن هذه المقاربة لم تفرز ضغطا مستديما, لا علي الرئيس الرواندي بول كاجامي ولا علي رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي حتي يغيرا الاتجاه.
وكثيرا ما انتقد أوباما لما اعتبر موقفا متهاونا مع الصين, المتهمة بالتضييق علي حقوق الأقليات في التبت وكسينكاينج, وهذا ما جعله يدعو الصين إلي حماية حقوق الإنسان, خاصة لأقلياتها, في خطاب شنغهاي, وقال في جلسة مع مسؤولين محليين وشباب أن بلاده لا تحاول فرض نظام سياسي علي أي بلد, لكننا نعتقد أيضا أن المباديء التي ندافع عنها لا تخص أمتنا فقط, وحدد أوباما بعض الحقوق التي يريد أن ترتقي بها الصين ومنها حرية العبادة والمشاركة السياسية والوصول الحر إلي المعلومات. ولكنه بالرغم من أنه لامس النقاط الصحيحة حول أهمية احترام حقوق الانسان عند زيارته الصين, إلا أنه أضعف رسالته عندما أخطأ الجواب علي سؤال حول الرقابة التي تفرضها السلطات الصينية علي الإنترنت عبر القول إن الإنترنت يمكن أن يمثل تقليدا مختلفا, وليس انتهاكا سافرا لحرية التعبير.
أما الحدث الجلل الذي وجه من خلاله مراقبون من داخل الولايات المتحدة وخارجها انتقادات واسعة للرئيس أوباما, هو تقليص إدارته للدعم المادي المخصص لمجالي الديمقراطية وحقوق الانسان بمنطقة الشرق الأوسط في ميزانية2010 ـ2011.
علي الرغم من خفض الدعم الأمريكي للديمقراطية في بعض الدول العربية إلا أنني أتصور أن تشجيع الديمقراطية مازال يشكل أولوية لإدارة الرئيس أوباما, فتخفيض الدعم لا ينفي القلق الأمريكي الصريح بشأن قضية الإصلاح السياسي. كما أزعم أن الإدارة ستعمل علي تدعيم الحريات المدنية. فالإدارة الأمريكية الحالية رأت أن الإدارة السابقة كانت قد حولت أموالا واسعة من برامج ضرورية جدا. فتخفيض أو إلغاء البرامج المكرسة لتنمية البنية الأساسية والرعاية الصحية والزراعة من أجل رعاية مؤتمرات الإصلاح السياسي لا يفعل سوي القليل لدفع عجلة قضية الديمقراطية.
أضف إلي ذلك, إن إدارة الرئيس الأمريكي تفضل استراتيجية لتشجيع الديمقراطية تعتبر التنمية الاقتصادية والإصلاح السياسي أهدافا مكملة, والدليل علي ذلك هو دعمها لمؤسسة تحدي الألفية, وهو صندوق تنموي, تعمل الأموال التي تدار من خلاله علي ربط مستويات المعونة مع نوعية حاكمية الدول التي تتسلم المعونة ومؤسساتها, بمعني أن تلك المؤسسة تقوم علي فرضية أن المساعدات تصبح أكثر فاعلية إذا عززت من الحكم الرشيد, والحرية الاقتصادية, والاستثمار في البشر.
وخلاصة القول, إن أوباما يؤمن بتوجه أقل قلقا بالشكل وأكثر اهتماما بالمضمون, وهذا ما يجعل سياسته مدروسة, تعتمد علي التنمية الاقتصادية ودعم المؤسسات التي تسمح لمجتمع ديمقراطي بأن يتطور. كما أن إدارته تؤمن بأن الحكومات الخارجية أو المجتمع المدني العالمي لا يستطيع فرض التغيير, ولكنها في نفس الوقت تشجع وتوفر الدعم والسلامة لحماية الناشطين في حقل حقوق الانسان والديمقراطية عندما يواجهون مشاكل, وهذا ما جعل إدارة أوباما تستعمل أدوات مثل الصندوق العالمي للمدافعين عن حقوق الانسان الذي وفر خلال السنة الماضية مساعدة قانونية هادفة وإعادة توطين إلي170 مدافعا عن حقوق الإنسان حول العالم.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.