الموقف الأميركي إزاء ما يجري على أرض مصر العفية، كوميديا بامتياز. فهو موقف لا يتغير فقط على مدار الساعة، وإنما يقول أحيانا الشيء وعكسه، وأحيانا لا يقول شيئا على الإطلاق!
ففي الأسبوع الأخير من يناير، استيقظ العالم ومعه الولايات المتحدة الأميركية على أصوات الورد الذي تفتح في شوارع مصر. فقد أعاد شباب مصر للعالم ذاكرته ولمصر كرامتها المهدرة. مصر الحقيقية الحية التي كان الكثيرون في الداخل قبل الخارج، يمنون أنفسهم بأنها قد انتهت إلى غير رجعة.
والحقيقة أن المفاجأة أربكت الولايات المتحدة كما أربكت غيرها. لكن لأن الثورة المصرية كانت حقيقية لا هزل فيها، فقد فضحت الموقف الأميركي. وهو موقف ليس فيه جديد بالمناسبة، سواء في مضمونه أو وقائعه، بالمقارنة بما جرى مع بلدان أخرى تشهد تحولات خارقة.
ففي بداية الثورة المصرية، خرجت هيلاري كلينتون على العالم لتقول بثقة تحسد عليها، أن النظام المصري «مستقر» وأنه سيتعامل بحكمة مع المتظاهرين. لكن ما هي إلا ساعات، حتى اكتشف العالم أن الوزيرة الأميركية لا تعرف شيئا عما يدور في البلد الذي طالما وصفوه «بالحليف الاستراتيجي». فسرعان ما انسحب جهاز أمن النظام «المستقر» ونزل الجيش إلى الشوارع، وسقط في مدن مصر الكثير من الشهداء والجرحى. فخرج تصريح آخر للمتحدث باسم الخارجية الأميركية، يعلن أن بلاده «تتابع وتستجيب» لما يحدث. وهو كلام، كما ترى عزيزي القارئ، مثل الماء لا لون له ولا رائحة!
ومع تلاحق الأحداث على مدار الساعة، غيرت الوزيرة الأميركية موقفها وتفتق ذهن مستشاريها عن صك تعبير فريد، رددته الوزيرة وغيرها من المسؤولين، حين راحوا ينادون بما أسموه «الانتقال المنظم للسلطة». وهو التعبير الذي صار نكتة يتداولها الشعب المصري المعروف بخفة ظله، باعتباره أحد تلك التعبيرات التي تعني أي شيء، ولا شيئا على الإطلاق.
ثم انتظر الأميركيون ما سوف يقوله رئيسهم بنفسه، فألقى الرجل كلمة من فقرات عشر مليئة بالجمل الإنشائية التي لا تحمل موقفا محددا. فبينما المظاهرات انطلقت أصلا في شوارع كل المدن الكبرى في مصر متحدية حظر التجوال المفروض، إذا بأوباما يستخدم عبارات عامة منقولة من كتب الأطفال عما يعرف «بالمبادئ الأميركية». فهو تحدث عن دعم بلاده للحق في «حرية التجمع والتعبير والمعلومات». ثم ذكر أنه تحدث إلى الرئيس مبارك شخصيا، ونقل عنه أنه يدرك أن «الوضع الحالي لا يمكن استمراره، وأن التغيير ينبغي أن يتم». وكما ترى، عزيزي القارئ، فإن الرئيس الأميركي يخبر العالم برأي مبارك، لا رأي أميركا في ما يجري في مصر، دون حتى أن يقول لنا ما نوع التغيير يا ترى الذي كان مقصودا في الحديث الهاتفي بين الرئيسين، ومدى علاقته بمطالب الثورة التي تفجرت في ربوع مصر!
وقد تزامن كل ذلك مع زيارة لمصر قام بها فرانك ويزنر، الذي كان سفيرا للولايات المتحدة في مصر في نهاية الثمانينات، مبعوثا للرئيس أوباما لإجراء محادثات مكثفة مع المسؤولين المصريين. وما هي إلا ساعات حتى كان الرئيس المصري يعلن أنه لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة القادمة المزمع إجراؤها في سبتمبر القادم، وتعهد بتعديل الدستور.
لكن سرعان ما انفجرت الأحداث في يوم الأربعاء الدامي، الذي خرجت فيه عصابات تزعم أنها تتظاهر لتأييد مبارك، فإذا بها تهاجم المتظاهرين في ميدان التحرير بقنابل المولوتوف والأسلحة البيضاء، بل وبالجمال والخيول، في جريمة منظمة على مرأى ومسمع من العالم. هنا، خرجت أميركا الرسمية تقول إنها حين تحدثت عن «الانتقال المنظم» إياه للسلطة، فإنها كانت تعني الآن وليس في سبتمبر! ثم ما هي إلا ساعات أخرى، حتى كانت صحيفة النيويورك تايمز تعلن أن الولايات المتحدة تجري محادثات مع المسؤولين في مصر، تهدف لتنحي مبارك وتسليم السلطة لنائبه، بعد أن كان بايدن قد قال قبل ساعات أنه لا يعتقد أن على مبارك الرحيل!
ألم أقل لك عزيزي القارئ، أننا أمام مسلسل كوميدي من الدرجة الأولى، لا تكاد تشاهد إحدى مفارقاته حتى يواليك بالأخرى؟
إلا أن الأكثر كوميدية من كل ما تقدم، هو أن أجهزة الاستخبارات الأميركية التي فشلت في توقع الثورة المصرية، أخفقت حتى في إعداد قراءة معقولة ليوميات تلك الثورة العظيمة، ليبنى عليها أوباما موقفه. فلا ثوار مصر يريدون دعم أميركا، ولاهم يعنيهم أصلا ما يقوله الأميركان. فالثورة مصرية خالصة، وشبابنا لم ولن يطلب عونا من الأميركان. ولو أن هناك من نقل ذلك لأوباما لما تحدث في خطابه بفخر عن أهمية «التكنولوجيا» في ثورة المصريين، وكأن بلاده ساهمت في الثورة لمجرد أنها اخترعت تلك التكونولوجيا. وهو الكلام الذي بدا كوميديا للغاية، حين قيل بعد أيام طويلة من صمود شباب مصر وثورتهم الفتية، رغم أن مصر ظلت مقطوعة عن تلك التكنولوجيا خلال تلك الأيام. فالثورة المصرية دليل على أن الكثير يمكن أن يحدث دون التكنولوجيا، وليس العكس!
كل هذه الكوميديا ليست جديدة في مضمونها. فكتاب الإرشادات الذي تتبعه الحكومات الأميركية المتعاقبة، يقول «ادعم حليفك في البداية وانتظر قليلا، فإذا ازدادت الضغوط عليه فاقفز من المركب وازعم أنك كنت ضده من البداية».
لكن الولايات المتحدة تقول إن موقفها من مصر يختلف، لأنها تحاول هذه المرة أن توازن بين دعم الديمقراطية وبين خوفها من وصول الإسلاميين للسلطة في مصر. لكن هذا التبرير مستخرج حرفيا من القاموس الأميركي ذاته، الذي كان يبرر الموقف نفسه بالخوف من وصول «الشيوعيين» للسلطة في أزمنة سابقة. والحقيقة بالأمس واليوم، أن المسألة لا تتعلق بشيوعيين ولا إسلاميين، وإنما بالخوف من أن يصل للسلطة من يصرون على استقلالية القرار الوطني.
كاتبة مصرية
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.