تحتاج الولايات المتحدة إلى بعض الوقت كي تدبر أمرها وتستوعب ما يحدث في منطقتنا التي يتحول ربيعها العربي إسلاميًّا عبر انتصارات انتخابية متوالية تحققها أحزاب إسلامية في تونس والمغرب ومصر, تجد واشنطن الأمر محيرًا بالنسبة إليها، وهى التي لم تحسم الخلاف في داخلها حول الموقف من القوى الإسلامية وكيفية التفاعل معها, فالحيرة بادية في سلوكها تجاه الصعود الانتخابي لأحزاب النهضة والعدالة والتنمية والحرية العدالة في تونس والمغرب ومصر.
غير أن حالة مصر تظل الأكثر دلالة على حيرة واشنطن بشأن مستقبل المنطقة العربية، ليس فقط لأهمية هذه الحالة في محيطها ولكن أيضًا لأنها تعبر بشكل أكثر وضوحًا عن الحيرة بين ديمقراطية قد تأتي بحكم إسلامي ودكتاتورية قد تترتب على منح المجلس الأعلى للقوات المسلحة وضعًا مميزًا في النظام السياسي الجديد.
وكما أن مصر هي الأكثر إثارة للاهتمام داخل الولايات المتحدة بسبب العلاقات المميزة بين البلدين منذ منتصف السبعينيات من ناحية، والعلاقات بين القاهرة وتل أبيب من ناحية ثانية يحظى الوضع في مصر بعناية خاصة من جانب الكونجرس والإعلام ومراكز الأبحاث وجماعات الضغط المؤثرة في عملية صنع القرار الأمريكي.
حيرة إدارة أوباما بشأن مستقبل ويزيد هذا الاهتمام “الربيع العربي” عمومًا، وليس العكس، نتيجة اختلاف مواقف القوى والأطراف الداخلية التي تؤثر في صنع القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية.
ويظهر هذا الاختلاف, وما يقترن به من تعارض، في الموقف تجاه الأحزاب والقوى الإسلامية أكثر مما يمكن ملاحظته بشأن كيفية التعامل مع الأطراف الأخرى كالمجلس العسكري في مصر. فلم يحدث تغير ملموس في خريطة مواقف الأمريكيين تجاه الإسلاميين بعد ثورة 25 يناير، وفى ظل “الربيع العربي” عمومًا. ولا تزال معالم هذه الخريطة وتضاريسها الأساسية على حالها. فهناك من يعتبرون الإسلاميين خطرًا رئيسيًا على المصالح الأمريكية ويرون وصولهم إلى السلطة كارثة يفوق أثرها أية دكتاتورية، ومن لا يجدون مبررًا كافيًا للخوف منهم ورفض التعامل معهم ويحذرون مما يسمونه “الإسلامو فوبيا” أو “إخوان فوبيا”، وينبهون إلى وجود فرق بين أي تيار أو حزب حين يكون معارضًا وعندما يصل إلى الحكم ويصبح في موقع المسؤولية.
وهناك من يقفون في منزلة وسطى، فلا هم يخافون الإسلاميين كل الخوف، ولا هم يأمنون لهم بلا قيد أو شرط، بل يتخذون موقفًا حذرًا، لا يغلق الباب أمام إمكان التعامل معهم ولا يفتحه على مصراعيه.
فعلى سبيل المثال، حذّر مجلس العلاقات الخارجية (أحد أهم مراكز الأبحاث والتفكير الأمريكية) من قوة تنظيم جماعة “الإخوان”، باعتبارها عقبة في طريق التحول الديمقراطي، بينما حذّرت افتتاحية “واشنطن بوست” في عددها ليوم 4 نوفمبر الماضي من حكم عسكري، وطالبت إدارة أوباما بإقناع الجيش المصري بعدم الاستمرار في السلطة.
ولذلك يبدو موقف إدارة أوباما، في أحد أوجهه، تعبيرًا عن هذا الانقسام في الداخل الأمريكي. ولكن هذا لا يعنى أنها توازن بين الموقفين المتعارضين على وجه التحديد، بغية إرضائهما في آن معًا، أو تجنبًا لغضب أي منهما. فالموقف الرسمي الأمريكي في حالة حيرة موضوعية لم يصنعها اختلاف مواقف القوى الداخلية، وإن كان هذا الاختلاف قد غذَّاها بدرجة أو بأخرى
ويبدو أوباما شخصيًا في موقف صعب. فإذا صح أن خياره المفضل هو أن يكون الناشط السياسي وائل غنيم هو رئيس مصر القادم، حسب ما ذكرته صحيفة “نيويورك تايمز” في منتصف مايو الماضي نقلًا عن أحد مساعديه، لابد أن يكون محتارًا وهو يعتقد أن هذا الخيار ليس مطروحًا، وأنه أمام خيارين قد لا يكون لهما ثالث، وهما حكم الإسلاميين أو قيادتهم لائتلاف حاكم من ناحية، وحكم العسكر أو سيطرتهم على السلطة بشكل غير مباشر من ناحية ثانية.
غير أن حصر مستقبل مصر في هذين الخيارين يعتبر اختزالًا مخلًا لواقع أكثر تعقيدًا بكثير، وإذا صح ذلك تصبح المشكلة في عدم سلامة قراءة واشنطن وإدارة أوباما الوضع في مصر, وليس فقط في عدم قدرتها على حسم موقفها, ومع ذلك لا يزال في إمكان واشنطن أن تضع حدًا لازدواج موقفها إذا أحسنت قراءة الخريطة السياسية المصرية الراهنة.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.