برزت في عام 2011 ظاهرة ملفتة ومهمة ضاعت وسط ضجيج وإرهاصات ما يجري في منطقتنا، ولم تحظ بالتغطية والاهتمام الذي تستحقه. تلك الظاهرة تمثلت بالتراجع على المستوى الدولي لدور وحضور ومكانة الولايات المتحدة الأميركية وذلك لأسباب عديدة. وبالرغم من وجود بعض الباحثين والكتاب الأميركيين الذين يشككون بالتراجع الأميركي ويؤكدون أن أميركا لا تزال الدولة الأقوى والأكثر تأثيراً على المسرح الدولي وستبقى كذلك للمستقبل المنظور وأن التراجع والضمور يبقى نسبياً. وقد يكون ذلك صحيحاً. ولكن الواقع أيضاً يؤكد أن أميركا اليوم في عام 2012 هي غير أميركا قبل سنوات سواء بالنسبة لقدراتها ومكانتها وهيبتها واحترامها وقدرتها على تنفيذ وتحقيق ما تريد سواء بالترغيب أو بالترهيب.
أوضحنا خلال الآونة الأخيرة في هذه المساحة الدور والمكانة الأميركية وخاصة في عام 2011 وكما أوضحنا فإن عام 2011 كان بحق عام التغيير التاريخي الذي لا نزال نعيش إرهاصاته وتحولاته المهمة. فبالإضافة إلى الربيع العربي وثوراته وحراكه الثوري الذي مر عام عليه وعلى سقوط أول أحجار الدومينو على رقعة شطرنج وتسونامي التغيير الكبير الذي سقط خلاله وتوارى أربعة رؤساء جمهوريات عربية من زين العابدين في تونس ومبارك في مصر والقذافي الذي تمت تصفيته في ليبيا وآخرهم علي عبدالله صالح الذي بعد طول مماطلة ومراوغة وشراء الوقت ليرحل لأميركا للعلاج وليعود كرئيس لحزب المؤتمر. كما تراجع دور قوى الدول الكبرى التقليدي وصعد نجم الإسلاميين ليشكلوا هلالا إسلاميا يمتد من المغرب إلى الخليج. وتقدم دور وحضور دول مجلس التعاون الخليجي، كان هناك تراجع لقوى كبيرة ومؤثرة في النظام العالمي وعلى رأس تلك القوى كانت أوروبا وفقدان الثقة بجدوى ومكانة اليورو والأهم من ذلك كان ظهور بداية التراجع الاستراتيجي للقطب العالمي الأهم الولايات المتحدة الأميركية. وقد رصدنا وعلقنا وتناولنا تلك الأبعاد ودلالاتها في مقالات عديدة في هذه المساحة خلال عام العام الماضي.
بقيت الولايات المتحدة لعقود نقطة الارتكاز الرئيسية على المستوى الدولي وخاصة عقب الحرب العالمية الثانية وتفرد أميركا بجميع أنواع القوة من ناعمة متمثلة بقوة وتفرد نظامها السياسي وكونها أول دولة قامت بثورة وكتبت دستورا وأسست لنظام فدرالي تعددي. وهذا ما أوضحناه في مقالنا في هذه المساحة في الأسبوع الماضي. وبسبب حروب أميركا خلال العقد الماضي التي استنزفت قدرات أميركا ماليا وبشريا والانهماك بالمنطقة الممتدة من أفغانستان إلى المتوسط، تم إغفال مناطق استراتيجية مهمة من آسيا وقضاياها ودولها ونموها وخاصة الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وبقية النمور الآسيوية وتمرد كوريا الشمالية النووية. وهناك مصالح أميركا الحيوية التي أهملت في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. لذلك أُخذ على الولايات المتحدة الأميركية إهمال تلك المناطق المهمة في ظل الانغماس بحروب العراق وأفغانستان وعلى الإرهاب.
في الخامس من هذا الشهر الجاري قدم الرئيس باراك أوباما الذي يصارع للفوز بولاية رئاسية ثانية، الاستراتيجية الدفاعية المستقبلية للولايات المتحدة الأميركية خلال العقد القادم والتي تختصر بخفض ميزانية الدفاع بخمسمائة بليون دولار خلال السنوات العشر القادمة وخفض عديد القوات المسلحة الأميركية من 1.5 مليون إلى 1.4 مليون عسكري لتصل ميزانية وزارة الدفاع لعام 2012 553 بليون دولار. وبالرغم من ذلك الخفض الكبير في ميزانية الدفاع الأميركية، إلا أن ذلك يُبقي الولايات المتحدة الأميركية الدولة الأكثر إنفاقا على الدفاع والأمن على المستوى العالمي وتنفق منفردة أكثر مما تنفقه الدول الكبرى العشر التالية لها مجتمعة.
يأتي التغيير في الاستراتيجية الدفاعية والأمنية للولايات المتحدة الأميركية في ظل مخاوف انكماش أميركا وتغير أولوياتها التقليدية كما أوضحتها الاستراتيجية التي أوضحها الرئيس أوباما وتحول الأولوية من حلفاء أميركا التقليديين الأوروبيين إلى آسيا وخاصة الصين وشرق آسيا. مع بقاء أولوية واضحة في منطقة الخليج العربي وجوارها. بسبب أمن الطاقة والصراع العربي الإسرائيلي والعراق وإيران والربيع العربي وما يرافقه من صعود للإسلام السياسي. وخاصة في ظل الانسحاب العسكري الأميركي من العراق والبدء بالتحضير للانسحاب من أفغانستان. وفي ظل معطيات وحقائق ومتغيرات جيواستراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي باتت بحاجة للتعامل معها بنهج جديد. خاصة مع تفاقم الدين العام الذي هو الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة وعجز في الميزانية الأخطر والذي تم وصفه بأنه يهدد الأمن القومي الأميركي. كما أن التغييرات في النظام العالمي تؤكد تحركه باتجاه التعددية القطبية. وما يرافق ذلك من صعود لمراكز قوى من الدول وغير الدول.
مع اعتماد الاستراتيجية الدفاعية الأميركية الجديدة، تكون الولايات المتحدة قد أنهت استراتيجيتها التي بقيت عقيدتها العسكرية خلال العقدين الماضيين في أعقاب الحرب الباردة والمتمثلة بالإنفاق الكبير على التسلح وعلى قوات مسلحة تعتمد على قوات برية وحروب طويلة ومكلفة وقدرة واشنطن على خوض حربيين في آن وفي قارتين مختلفتين والانتصار في مسرحي العلميات العسكرية. إلى عقيدة عسكرية جديدة ترتكز على خوض حرب قصيرة واحدة والانتصار في مسرح عمليات. واحتواء خصم في مسرح عمليات آخر.
بخفض أميركا لعديد قواتها المسلحة وميزانية الدفاع ستكون حروب أميركا القادمة حروب «ضرورة» وحروب «جهد مشترك» لجبهة عريضة من الدول الحليفة لواشنطن وتتصف تلك الحروب بالسرعة والتعويل أكثر على سلاح الطيران وأقل على القوات البرية ومشاة البحرية. وسيكون نموذج حروب أميركا المستقبلية كخيار أخير ونموذجها هو حرب ليبيا حيث «قادت أميركا من الخلف». وتركت القيادة للناتو ولقوى أوروبية. وهذا بالتأكيد وللأسباب التي أوضحناها ستجعل من حروب أميركا في العراق وأفغانستان آخر حروبها الكبرى والطويلة والمكلفة. وهذا بالتالي يجعل الرئيس أوباما آخر رؤساء الحروب الطويلة والمكلفة لأميركا العظمى!!
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.