الأزمة السورية: نفاق روسيا وعجز أميركا
غسان الإمام
أين وصلت الأزمة السورية؟ هي أسيرة نفاق الدبلوماسية الدولية. أميركا وأوروبا تحملان روسيا المسؤولية. فلاديمير بوتين يرد بأن الرفيق كوفي «أنانوف» ما زال صالحا لحل الأزمة. ينفي بوتين تسليح الرفيق بشاروفسكي، فيما دبابات الاقتحام الروسية حلت بحجمها المغلق الصغير، محل الدبابات الثقيلة والضخمة. أما مدافع الهاون (فخر الصناعة الروسية) فهي منهمكة في دك المدن والقرى المتمردة.
الرياء الدبلوماسي يغطي تدخل السلاح الروسي الجديد الذي تموله إيران «المفلسة». يقابله عجز أميركا وأوروبا عن التدخل. فهو مؤجل، ريثما يرتكب نظام بشار مجازر دموية، على شاكلة مجزرة الحولة. عندها قد يغدو التدخل جائزا من خلال الشرعية الدولية (مجلس الأمن) أو من خارجها.
كيف يمكن لجم بشار، إذا كان الرفيق أنان يكتفي بمتابعة المشهد بالنظارات من جنيف، لا من دمشق التي يزورها مجاملة؟! مع الغياب الأميركي، يتبنى أنان النفاق الروسي: وقف إطلاق النار. وجلوس المعارضة مع الجزار إلى مائدة واحدة. المهزلة يكشفها جان ماري جيهينو نائب أنان الذي أبلغ مأوى العجزة (مجلس الأمن) أن الحوار «مستحيل» في اللحظة الراهنة.
سوريا، إذن، ستبقى أسيرة دوامة النفاق الدبلوماسي، فيما نظام بشار يقصف، مسلحا بحماية «راسبوتين». ثم يدفع شبيحة الطائفة لاقتحام بيوت المدنيين المقصوفين وذبحهم. ثم… ثم يأخذ بنصيحة شيخ السنة البوطي، فيأمر المساجد بالصلاة لراحة «الشهداء»! هناك «شهداء» آخرون. هم أولئك العسكريون الذين يتم إعدامهم وقتلهم ميدانيا، عندما يرفضون إطلاق النار على المظاهرات السلمية.
لماذا تقف روسيا هذا الموقف السلبي من قضية إنسانية؟ لأن روسيا الخارجة من إهاب نظام آيديولوجي شمولي، بقيادة ضابط مخابرات خاض الحرب الباردة، كجاسوس في ألمانيا، لا تملك تقاليد عريقة في الحرية. وبعد أكثر من عشرين سنة ديمقراطية مهزوزة، ليست هناك منظمات وحركات روسية جادة تتبنى قضايا حقوق الإنسان، كما في أوروبا الغربية.
على أية حال، الصدام بين روسيا وأميركا وأوروبا، حول سوريا، ليس آيديولوجيا. لم يصل بعد إلى ذروة مواجهات الحرب الباردة، حول كوبا. فيتنام. برلين. أفغانستان. وبالتالي، فإمكانية التوصل إلى تسوية بين أوباما وبوتين واردة.
ما هو التصور الأميركي لهذه التسوية؟ إدارة أوباما في إلحاحها على تنحية بشار شخصيا، تعتقد أن ضمان المصالح الروسية في سوريا (قاعدة طرطوس البحرية. الاستثمارات النفطية. الانفراد بتصدير السلاح. أمن وسلامة المسيحيين الأرثوذكس) كاف لتخلي الرئيس الروسي عن بشار، وليس عن نظامه. وهكذا، فالدبلوماسية الأميركية تعتقد أن الرفض الشعبي السوري والرسمي الخليجي لبشار الذي بات عبئا ثقلا على كاهل روسيا، بسبب مجازره، كل ذلك يشكل أساسا منطقيا لتنحية سلالته. فمستقبل سوريا مرهون بعدم بقاء هذه السلالة. كما يقول القاضي والمحامي هيثم المالح، أبرز المعارضين السوريين الذي قضى سنين طويلة في سجون الأسد الأب والابن.
أما آلية إزاحة عشيرة الأسد العائلية الثلاثية (آل شاليش. الأسد. مخلوف) المتحكمة بأجهزة الأمن. الإدارة الحكومية. الحزب. الاقتصاد. الفساد، فالتصور الأميركي/ الخليجي يستحضر آلية تنحية الرئيس اليمني السابق. بوتين قد يكون قادرا على إقناع قادة الجيش السوري العلويين بالتخلي عن السلالة الحاكمة، في مقابل احتفاظهم بالسيطرة على القوة الضاربة للجيش «لحماية» الطائفة العلوية من محاولات الانتقام منها.
لكن لماذا هذا العجز الأميركي عن التدخل العسكري؟ أميركا قادرة عسكريا، وخاصة بعد انسحابها من العراق وأفغانستان. لكن المعنويات النفسية لدى الشعب الأميركي. وإدارة أوباما ضعيفة، بعد الفشل المرير في الحروب.
الرئيس أوباما، كمثقف رافض للحرب، يلعب دورا كبيرا في هذا العجز. وهو كسياسي مسؤول لا يريد حربا، في وقت يخوض حربا انتخابية لتحديد ولايته، فيما نصف الأميركيين يعتقد أنه رئيس «ناعم. متردد»، وأخفق في معالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة.
أما ميت رومني المرشح الرئاسي المحتمل للجمهوريين (تضعه استفتاءات الرأي على قدم المساواة مع أوباما) وغلاة المحافظين من أمثال جون ماكين، فهم يوبخون أوباما على تخاذله. لكنهم سيقفون موقفه الحذر إذا ما تولوا الحكم. هيلاري أكثر ميلا للتدخل، مستذكرة قرار زوجها الرئيس كلينتون بالتدخل العسكري الناجح ضد صربيا (1995) بعد مجزرة سريبرينيتسا التي أودت بحياة ثمانية آلاف مسلم.
جنرالات البنتاغون يقولون إنهم استكملوا وضع خطط للتدخل العسكري الطارئ، بما في ذلك في سوريا. لكن وزير الدفاع ليون بانيتا أشد حذرا. وكرئيس سابق للمخابرات المركزية، يدرك مدى تعقيد الأزمة السورية عربيا. إقليميا. دوليا. دينيا. مذهبيا. عنصريا.
هل تعترض روسيا على تدخل أميركا وأوروبا عسكريا في سوريا؟ روسيا يلتسين لم تتدخل لإنقاذ أبناء العمومة سلاف صربيا، عندما تدخلت أميركا كلينتون في البلقان في التسعينات. لكن بوتين أكثر حزما. فهو يقود روسيا الأقوى اليوم سياسيا وعسكريا. والأكثر تصميما على الاحتفاظ بدور نافذ في العالم. وخاصة في الشرق الأوسط المجاور لها.
حرب إسقاط القذافي دللت على أن أميركا طورت تقنية جوية ضاربة تعفيها من الحاجة إلى إنزال قوات برية في سوريا. تركيا وربما مع قوات عربية قادرة على إقامة مناطق «محررة»، بحماية جوية أميركية/ أوروبية، تنطلق منها قوات المعارضة المسلحة لاستنزاف جيش فقد مشروعيته الوطنية، ولاجتذاب عشرات ألوف المجندين السنة في صفوفه.
سوريا غير ليبيا. سوريا تملك منظومة دفاعية جوية قوية تعوض عن ضعف سلاح الطيران. هذه المنظومة التي شاركت مع مصر في تحييد سلاح الجو الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973، هي أقوى اليوم. لكن تقدير الخبراء العسكريين يشير إلى أنها لن تصمد سوى أيام قليلة أمام الضربات الجوية. سوريا تملك أيضا مخزونا ضخما من الأسلحة الكيماوية. إذا غامر النظام باستعمالها ضد دول مجاورة، أو نقل جانبا منها إلى «حزب الله». عند ذلك يغدو التدخل الغربي محتما.
لا أظن أني بحاجة إلى التعليق على انفجار الوضع في طرابلس بشمال لبنان. فقد توقعت ذلك في حديث الثلاثاء الماضي. تصريحات الأمير سعود الفيصل توحي بأن السعودية غير مقتنعة بنظرية «النأي» التي حملها معه الرئيس اللبناني في جولته الخليجية. اتهام الفيصل لنظام بشار بالضغط على لبنان، هو إشارة سعودية شديدة التهذيب، إلى أن الحكومة اللبنانية (المنحازة) باتت تستخدم الجيش ضد سنة طرابلس وعكار، بحجة منع تسلل المقاتلين والسلاح عبر الحدود.
سبق أن قلت مرارا إن تحليل الساسة اللبنانيين للأحداث يرتكز إلى العاطفة، وليس إلى المنطق والواقع. التحليل الرسمي اللبناني يراهن ضمنا على «انتصار» نظام بشار. وإيران. وشيعة «حزب الله» في الأزمة الراهنة. من هنا، كان خطأ توريط الجيش اللبناني في مواجهة مع السنة اللبنانية المتعاطفة مع الثورة السورية، فيما تسكت حكومة نجيب ميقاتي عن تسلل السلاح الإيراني/ السوري المتدفق عبر الحدود، على حزب الشيعة.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.