إن من يتابع تصرفات الولايات المتحدة الأميركية إزاء الأزمة السورية الراهنة يخرج بانطباعات قوية بأن استمرار دورها بالانفراد بالهيمنة على العالم مرهون أو متوقف على تدخلها العسكري في سورية دعماً لما يسمى المعارضة السورية، وهي في مثل هذا التصور، تتجاوز إلى حد بعيد موقفها عندما تدخلت في ليبيا بالمشاركة مع حلفائها في دول حلف الناتو. عندما تدخلت في ليبيا لم يكن تدخلها مبنياً على هذه القناعة المتشكلة لديها تجاه التدخل في سورية، وبمعنى آخر، تعتبر واشنطن أن أمر سورية مختلف وأشد خطورة على موقعها وسياستها في المنطقة وفي العالم، فإما الهيمنة على سورية ثم استمرار هيمنتها على العالم بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط، وإما فقدان الفرصة في سورية، ما يعني عودة سورية إلى دورها المعروف في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني والتوسع الإسرائيلي في المنطقة، ومن ثم لا ثالث بين هذين الموقفين.
تقدير خطر
إزاء مثل هذا التقدير الخطر يصف الكاتب (جاكسون ديل) في صحيفة واشنطن بوست موقف الرئيس (أوباما) تجاه المشكلة في سورية بأنه في حالة تخبط، ويعزو ذلك إلى أن حملة الرئاسة الأميركية المقبلة تتطلب التهدئة وتجنب حصول حرب في الشرق الأوسط، كما يعزو الأمر إلى سبب آخر هو أن الولايات المتحدة تواجه إيران وليس سورية وحدها.
ثم لا يلبث الكاتب نفسه أن يتوصل إلى استنتاج صحيح حيث يقول: «لقد أصبح واضحاً أن الخطوات التي قد تنجح في أحد الموقعين – أي سورية وإيران – ستؤدي بالتأكيد إلى تعقيد الأمور بشأن الإستراتيجية الغربية في الموقع الآخر»، ويشرح ذلك بوضوح حين يتساءل: «إذا تورطت أميركا في عملية عسكرية في سورية فهل سيمكنها بعد ذلك أن تشن هجوماً على المنشآت النووية الإيرانية؟ وماذا لو أقدمت إسرائيل على شن هجوم، بينما العملية السورية لم تزل مستمرة على حالها؟ ويجيب بوضوح بأن ذلك سيؤدي إلى فوضى وإلى خروج الأمور عن السيطرة.
لا شك في أن إسرائيل تركز على إيران قبل كل شيء، لكن هذا التركيز يصطدم مع المفاوضات الدبلوماسية الجارية مع إيران بشأن ملفها النووي، كما يجعل مجال الاختيار في سورية أمام أوباما ضيقاً، إذ تتطلب أي صفقة مع إيران دعماً من روسيا.
شيء آخر مهم، وهو أن مثل هذا الكلام من كاتب مؤيد لسياسة أوباما في المنطقة قد فقد مصداقيته تماماً، لأن روسيا – وحسب مصادر أميركية – بدأت بدعم سورية عسكرياً. وهذا ما أكدته نشرة «بيونيربريس» عندما أوردت على لسان أكبر مصدري السلاح في روسيا في 16/6/2012 أن شركته «تشحن أنظمة صواريخ دفاعية متقدمة لسورية من شأنها أن تسقط الطائرات أو تغرق السفن إذا حاولت الولايات المتحدة أو غيرها من الدول الغربية أو إسرائيل أن تتدخل في سورية عسكرياً بسبب موجة العنف التي تجتاحها. ومن ثم يتعين على أي كان، إذا كان يخطط لشن هجوم أن يفكر في الأمر».
إذاً، من الواضح أن الموقف الإقليمي هذا يتحول إلى شن مواجهة دولية، والسؤال هنا هو التالي: هل الولايات المتحدة مستعدة لأن تواجه القوة العسكرية الروسية من أجل مساندة إسرائيل، وخاصة أن روسيا أصبحت تنظر إلى الشأن السوري على أنه شأن يهمها أيضاً، وأن الشأن الإيراني لا يهم إيران وحسب بل يهمها أيضاً؟
هذا، ويرى العديد من المحللين السياسيين والعسكريين أن بوادر تحول الأزمة الشرق أوسطية من المجال السياسي إلى المجال العسكري تشكل تحولاً خطراً، ويصفون ذلك بأنه أخطر أزمة بين القوتين العسكريتين الأعظم في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
تصورات خاطئة
إن الولايات المتحدة لا تزال ترى نفسها أنها القطب الوحيد المهيمن على العالم، وأن هذه الهيمنة يجب أن تتواصل وتستمر، متجاهلة الآخرين. في الوقت نفسه، قد تميل واشنطن إلى تفسير المواقف الروسية حسب معايير أميركية في تقدير ما يعنيه تعبير المصالح، وغالباً ما تظن الولايات المتحدة بأن روسيا تهتم بأن يكون لها منفذ على البحر المتوسط، وأنها من خلال اهتمامها بالشأن السوري تبقي على هذه الإطلالة الخارجية، أو بالأحرى تحصل على هذا المنفذ، إلا أن الحقائق تؤكد أن مصالح روسيا في المنطقة أوسع وأكبر من ذلك بكثير، وربما لا تقلُّ في اتساعها وعمقها عن المصالح الأميركية الإستراتيجية والاقتصادية والسياسة، وهذا أمر ليس مستغرباً، فروسيا دولة عظمى، ولها الحق في أن تكون لها مصالح هنا وهناك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن روسيا لم ولن تستغل الآخرين وتنهب خيراتهم، وتهيمن على قراراتهم السيادية كما تفعل أميركا مع دول العالم، بل هي تريد أن تصحح العلاقات بين دول العالم، وتعيد إليها التوازن، وخاصة أن هناك قوى أخرى صاعدة تشارك روسيا في هذه التوجهات مثل الصين وغيرها.
أميركا ومصالح إسرائيل
على أي حال فإن اهتمام الولايات المتحدة بمصالح إسرائيل سيربكها أكثر فأكثر، كما أكد ذلك أكثر من كاتب أميركي، حتى إن تردد الولايات المتحدة في تلبية رغبات إسرائيل بمهاجمة إيران، يعود إلى خشية واشنطن من رد الفعل الإيراني على مثل هذا الهجوم وما يمكن أن يلحق من أضرار باهظة بالوجود العسكري الأميركي في المنطقة.
جدير بالذكر أن الولايات المتحدة تقدم خدمة كبيرة لإسرائيل عندما تعمل باستمرار على اتباع سياسة ترمي إلى إبقاء التباعد بين مصر وإيران في المنطقة وهما أكبر قوتين إقليميتين فيها، وذلك من خلال ضغوط غير علنية، منها استمرار الاتصالات بين واشنطن والقاهرة أو بالأحرى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فالزيارات من القادة العسكريين الأميركيين إلى مصر لم تنقطع منذ إزاحة حسني مبارك، وهذا يأتي انطلاقاً من أن أي اتصال أو حتى تنسيق بين البلدين، أي مصر وإيران، يزعج إسرائيل، ثم واشنطن، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ستستمر في ممارسة الضغوط المختلفة على مصر لتأمين بقائها بعيدة عن إيران لمصلحة إسرائيل ولمصلحة بعض النخب الحاكمة في الخليج وخاصة السعودية وقطر والبحرين والإمارات
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.