Kerry's Tour: An American Tradition

<--

جولة كيري . . تقليد أمريكي ثابت

وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يعتزم زيارة أنقرة و”تل أبيب” ورام الله خلال هذا الأسبوع . وبينما تحدثت صحف أمريكية عن أن زيارة كيري كانت مخصصة لآسيا، وأن “المنطقة” قد أضيفت إلى برنامج الزيارة، إلا أن وقوع موعدها بعد أسابيع قليلة على زيارة باراك أوباما، تسمح بالاستخلاص أن جولة كيري هي ثمرة لزيارة الرئيس .

والزيارة إذا تمت حسبما هو معلن عنها، هي مستغربة حقاً، فهناك توتر هائل غير مسبوق بين الكوريتين، والتهديدات النووية المحظورة حكماً حتى على نادي الكبار النوويين . . هذه التهديدات ارتفعت في بيونغ يانغ ضد سيؤول، دون توفير الولايات المتحدة نفسها منها، فهل تملك واشنطن “الترف” كي تنشغل بقضية غير ملتهبة كقضية “الشرق الأوسط”؟

مع ذلك فقد نسب إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قوله إن الفرصة المتاحة أمام كيري هي شهران لأداء مهمته، والمفارقة في الأمر أنه بينما تتمسك السلطة برفض استئناف التفاوض، فإن مسألة التفاوض لا تشغل حكومة نتنياهو المعنية بالاستيطان، وليس هناك ما ينبئ أن المسألة تحظى بأولوية تذكر لدى واشنطن في هذه المرحلة . فإلى جانب التوتر الناشئ في شبه الجزيرة الكورية، هناك الأزمة السورية التي مازالت على صفيح ساخن، والحلول السياسية لها لا تعدو أن تكون سراباً، وهذه بالمقاييس الأمريكية أدعى إلى الاهتمام، وستكون مثار اهتمام فائق في محطتي الوزير في أنقرة و”تل أبيب” . فعلام إذاً، هذه الجولة التي ستكون رام الله محطة رئيسة لها؟

خبرة العقود السابقة من تاريخ الصراع تفيد أن واشنطن قد دأبت على إرسال وزراء خارجيتها إلى المنطقة، في مفتتح ولاية كل رئيس ديمقراطياً كان أم جمهورياً . وأن هذه الجولات باتت من التقاليد المرعية للخارجية الأمريكية، كما يدل على ذلك أرشيف هذه المهمات المتعاقبة لسائر رؤساء الدبلوماسية . وأن هذه الجولات ضرورية في تقدير المؤسسة الأمريكية من أجل إسباغ معنى إيجابي على العلاقات مع العالم العربي أولاً، وفي سبيل قطع الطريق على أي جهد أو اهتمام دولي بحيث تنفرد واشنطن من دون غيرها من عواصم العالم بأداء هذا الدور ثانياً، ولنا أن نلاحظ كيف أن الرباعية الدولية تغيب وتحضر، تنام وتستيقظ حسبما يُراد لها من واشنطن، بصرف النظر عن رأي بقية الأعضاء: روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة .

جولة الوزير الجديد كيري في الولاية الجديدة لأوباما لا تخرج عن هذا السياق، بل على العكس تتقيد به . فهي تأتي بلا وعود، بلا مقدمات، بغير موجبات واقعية على الأرض، ومن دون توقعات تذكر، ومع ذلك فإن خطة القيام بها سائرة على قدم وساق، إلا إذا اشتد التوتر الكوري ولامَس خطوطاً حُمراً وفرض برنامجاً طارئاً على جدول أعمال الوزير . وسيكون الجديد فيها هو شخصية الوزير نفسه كوجه جديد على الدبلوماسية الأمريكية، بعدما “نشطت” على هذا الصعيد من قبل هيلاري كلينتون وغوندوليزا رايس . وستكون هذه فرصة لإعلان التزام إدارة بلاده بتحقيق حل الدولتين، ودعم حكومة سلام فياض في متاعبها المالية، ودفع “تل أبيب” إلى تقديم مزيد من اللفتات بالإفراج عن أسير مريض أو أسيرة أو الاثنين مثلاً، والتذكير بأهمية التفاوض الثنائي والدعم الأمريكي الدائم للمفاوضات كأفضل وسيلة لحل الخلافات، والدعوة إلى نبذ المتطرفين (على الجانب الفلسطيني، فلا وجود لمتطرفين على الجانب الآخر!) وربما يحمل الرجل دعوة للرئيس عباس إلى واشنطن، يتم الاتفاق لاحقاً على موعدها وبرنامجها . . .

بهذا تُجدد واشنطن التزاماتها الثابتة، وهي بالفعل التزامات ثابتة ب”عملية سلام” شبه أبدية عابرة للرؤساء المتعاقبين واللاحقين، ومن أبرز محدداتها أن تنال رضى مسبقاً من الحكومات المتعاقبة في “تل أبيب”، فإذا طرأت خلافات بين الجانبين تتجمد العملية (لكن الاتصالات تتواصل) إلى أن تتبنى واشنطن وجهات نظر “تل أبيب” بتفاصيلها، وهذا بالضبط ما حدث قبل نحو أربع سنوات حين نشبت خلافات بين الطرفين على الاستيطان، وقد صمدت “تل أبيب” وتراجعت واشنطن، أما الجانب الفلسطيني فمتمسك بتجميد الاستيطان أي إبقائه عند النقطة التي بلغها . ومع تراجع واشنطن وتمسك نتنياهو وعباس بموقفيهما، فإن الأمريكيين يطرحون الحل الشافي: ما دام الخلاف قائماً . . إذاً، عليكم أن تبحثوه باستئناف المفاوضات بينكما . يرحب نتنياهو ويواصل الاستيطان، ويتعهد علناً وعلى الأرض باستمراره، فيظهر الجانب الفلسطيني في النتيجة متعنتاً لأنه يوقف عجلة المفاوضات .

على هذا النحو العبثي تدور عملية السلام الأمريكية، ويُجرب كيري حظه ببيع بضاعة قديمة مستعملة على أنها بضاعة جديدة، وبمحاولة نسج علاقات شخصية مع زعماء الجانبين، والتشديد على استمرار التواصل . وإذا كنا نراها عبثية، إذ تضع الحقوق العربية في مهب الريح بل في فم المحتل، فلا شك في أنها ليست عبثية لدى الطرف الآخر، بل هي مثمرة حقاً، فمن المهم تحت غطاء “عملية السلام” شراء المزيد من الوقت، والاستيلاء على المزيد من الأرض، وفرض المزيد من الوقائع، ومنح المحتل فرصة فعل ما يريد بغير رقيب أو حسيب . أما الجانب الفلسطيني فخياره الوحيد أن يساق إلى مفاوضات ثنائية بلا نهاية وليس مهماً أن تنجح هذه المفاوضات هذه السنة أو السنة المقبلة أو بعد عشر سنوات، بل المهم أن تستمر من أجل تكريس هذا النهج، وحل بعض المشكلات اليومية، والتقريب بين “الشعبين” . . إلخ .

About this publication