America: The Return to McCarthyism

<--

لم يكد الحديث عن فضائح إدارة أوباما لاسيما تلك المتعلقة بالتجسس على صحافي في وكالة الأنباء الأمريكية الإخبارية الشهيرة “أسوشيتدبرس” يهدأ، حتى جاءت الضربة الكبرى لواشنطن ويبدو أنها تتجاوز هذه المرة أوباما نفسه إلى بقية الكونغرس الأمريكي، وتتعلق بتنصت وكالة الأمن القومي على الاتصالات الهاتفية والإنترنت والفاكسات وجميع وسائط الاتصال الاجتماعي .

ماذا عن تلك الفضيحة وعن ماورائياتها؟

تبدأ القصة بالمعلومات التي كشفت عنها في التوقيت نفسه صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية و”غارديان” البريطانية والمتعلقة بوجود برنامجين سريين لوكالة الأمن القومي الأمريكية يمكناها من الدخول مباشرة إلى خوادم مزودي خدمة الإنترنت من أجل تعقب تحركات أفراد على الشبكة من خلال الصوت والصورة والفيديو والرسائل الإلكترونية .

ماذا عن تفاصيل برنامج “بريزم” ودلالاته واستحقاقاته في حق الداخل الأمريكي والخارج العالمي والدولي؟

دون تبسيط مخل بدا واضحاً أن وكالة الأمن القومي تقوم على هذا المشروع منذ نحو سبع سنوات أي أنه يتجاوز عمر رئاسة أوباما الأولى وسنته في ولايته الثانية، ومن خلاله تمكنت الوكالة من الحصول على جميع المعلومات التي تملكها شركات الإنترنت من تاريخ المحادثات والصور والأسماء والملفات المرسلة والمكالمات الصوتية والفيديو وحتى أوقات دخول المستخدم وخروجه من الموقع .

من يقف وراء فضيحة “بريزم جيت” ولأي الأسباب كشف عنها؟

بحسب “غارديان” البريطانية هو الشاب الأمريكي “إدوارد سنودن” البالغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، موظف المخابرات المركزية الأمريكية السابق الذي كان مسؤولاً عن أنظمة كمبيوتر وكالة الأمن القومي، وفي حوار له مع الصحيفة البريطانية الشهيرة قال سنودن: “لست نادماً على ما فعلت، أفهم جيداً أنني سأدفع ثمن ما قمت به لكن سأكون راضياً عندما تكشف أسرار القوى السرية المتحكمة بالعالم الذي أحب، ولو للحظة” .

اختمرت فكرة فضح سنودن لتجسس أجهزة بلاده السرية على مواطنيه وسكان العالم معهم، في العالم ،2007 عندما أرسلته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في مهمة سرية إلى جنيف حيث اطلع مباشرة على كيفية عمل الوكالة وضباطها وخفايا ملفاتها الإلكترونية، في تلك الأوقات تولدت لديه الرغبة في اطلاع مواطنيه على ما يحاك لهم في الليل البهيم .

هل برنامج “بريزم” هو أحد تجليات “مكتبة بابل” الأمريكية الأسطورية الاستخبارية؟

قبل الخوض في غمار الحديث عن مشروع بابل هذا ربما يلزم التذكير بأن هناك مشروعاً أمريكياً تديره الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يطلق عليه اسم “ايشلون” ومهمته مراقبة الاتصالات الهاتفية وشبكات الفاكس والإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية في جميع أنحاء العالم، وتشترك في هذه الشبكة كل من بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وأكبر مقر له في البرتغال بأوروبا .

ومن تجليات “نظام ايشلون” برنامج يسمى Carnivor أي “آكل اللحوم”، وقد تم تفعيله بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 ليتجسس على قرابة 155 مليون شخص من مستخدمي شبكة الإنترنت في أوروبا، ولاحقاً تم تطويره ليراقب حركة البريد الإلكتروني في العالم، ومن ثم إدماج عمل نظام “كارنيفور” في صلب عمل شركات الإنترنت الأساسية حول الكرة الأرضية، وأضحى العين المراقبة دائماً لكل رسالة بريد إلكتروني تنطلق من أي مكان حول كوكب الأرض، أين تذهب جميع المعلومات التي تتحصل عليها الأجهزة الاستخبارية الأمريكية الستة عشر عبر أذرعها المتباينة؟

الجواب نجده عند الكاتب الأمريكي “ماثيو ايد” في كتابه المثير “القصة التي لم يقصها أحد . . تاريخ وكالة الأمن القومي”، وفيه حديث عما يجرى في الطرف النائي للصحراء القاحلة الجافة في ولاية يوتا الأمريكية، حيث درجة الحرارة كثيراً ما تتخطى المئة، ثمة عمال بناء بقبعات صلبة، يعملون في سرية تامة لبناء ما قد يصبح المعادل الأمريكي ل”مكتبة بابل” التي ابتكرها المؤلف الأرجنتيني “لويس بورخيس”، وهي مكان يضم كماً من المعلومات مخيفاً وهائلاً في آن، تختزن فيه معرفة العالم بأسره، لكن من دون أن يفهم أحد أي كلمة منها .

البناء الهائل الذي يمتد على مساحة مليون متر مربع وتبلغ تكلفته ملياري دولار، سيكون حجمه أكبر من الكونغرس الأمريكي بما يزيد على الثلث، ويستهلك قدراً من الطاقة يعادل مجموع ما تستهلكه جميع المنازل في مدينة “سولت ليك” مجتمعة، من الذي يشيد هذا البناء الرهيب ولأي الأهداف؟

شيد ذلك البناء من قبل مؤسسة وكالة الأمن القومي الأمريكية والهدف هو جمع وتحليل أشكال مختلفة من الاتصالات التي قد تتخطى تريليونات المكالمات الهاتفية، ورسائل البريد الإلكتروني، البيانات المنتشرة، وعمليات البحث على الشبكة المعلوماتية، وإيصالات ساحات انتظار السيارات، وعدد زائري مكتبات بيع الكتب، والمفكرات والبيانات الشخصية الرقمية، ونظراً لعدم وجود مساحة وطاقة كافيتين في مقر وكالة الأمن القومي في “فورت ميد” بولاية ماريلاند الذي تعادل مساحته مساحة مدينة، كانت الوكالة تعمل أيضاً لاستكمال العمل في بناء أرشيف آخر للبيانات في سان انطونيو بولاية تكساس سيكون تقريباً من مساحة منشأة آلامودوم الشهيرة .

هل يعني الحديث، من “ايشلون” إلى “مكتبة بابل” أن ما تكشف من معلومات عبر فضيحة “بريزم” ربما لا يمثل جناح بعوضة من حقيقة فعاليات تنصت وتجسس NSA على العالم وعلى الأمريكيين وعلى السماء والأرض قاطبة؟

يبدو أن أمريكا دخلت بالفعل مرحلة مكارثية جديدة، غير أن الأمر بصورته الفضائحية الحالية يلفت إلى ثلاثة استحقاقات أولية لا بد أن نرى لها صدى في القريب العاجل . . ماذا عن ذلك؟

* الأمر الأول: هو أن الحريات الفردية داخل أمريكا وخارجها باتت مهددة بالفعل، ولم تعد هناك خصوصية ما لأي شخص، لاسيما من الأمريكيين، والحجة والذريعة المعتادة هي الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي من خطر الإرهاب والإرهابيين .

والطامة الكبرى الحقيقية هي أن الكونغرس على اطلاع بهذا النوع من التنصت والتجسس منذ عام ،2007 إذ أعلن عدد من أعضائه عن أن الأمر القضائي الذي كشفته صحيفة “غارديان” البريطانية ليس سوى تجديد روتيني لممارسة قائمة، ما يعني تهميش الحقوق الديمقراطية الأساسية بشكل سري لمصلحة وكالات استخبارات لا يحاسبها أحد، الأمر الذي تذهب معه فكرة أمريكا الحريات أدراج الرياح .

* والأمر الثاني المهم الذي ستواجهه واشنطن خلال قادمات الأيام هو حالة القلق العالمي من فضيحة التجسس هذه، لاسيما أن برنامج “بريزم” مرتبط مع أكبر تسع شركات إنترنت في العالم، بما فيها مايكروسوفت وياهو وغوغل وفيس بوك، ومن المرجح أن تكون أوروبا أيضاً ممن اصطادت وكالة الأمن القومي الأمريكية المعلومات عنهم، ولهذا نرى أوروبا قلقة ومرعوبة، إذ إن معظم شركاتها مرتبطة بعمالقة الإنترنت وتستخدم أجهزتها وبرامجها وقاعدة بياناتها ومختلف التطبيقات والأنظمة التي يضعها العمالقة، وهذا يعني باختصار أن جميع بيانات الأوروبيين في أحضان الأمريكيين، ولا يوفر المشهد جميع الدول العربية بدورها والمتصلة بنفس الشبكات، أي إنها جميعاً تحت أعين “الأخ الأمريكي الأكبر” .

* الأمر الثالث: هو أن فضيحة “بريزم” حتماً سوف تعقد العلاقات الأمريكية الصينية التي هي محتقنة ومعقدة بالفعل . . لماذا؟

لان ادوارد سنودن الذي كشف هذه الغمة أكد أنه ليست لديه خطط لمغادرة هونغ كونغ، وقد أشار في حديث له إلى صحيفة “ساوث تشاينا مورننينغ بوست الصينية” إلى أن لديه دليلاً على عمليات تجسس أمريكية على الإنترنت في هونغ كونغ والصين، لهذا فإن الرجل يعد صيداً ثميناً للصينيين، لاسيما في زمن الاتهامات الأمريكية الصينية المتبادلة بتجسس كل طرف على الآخر ومحاولة اختراقه . وهنا حتماً سيكون سنودن هدفاً رئيساً من نوعية المطلوب الأكثر Most Wanted أي أكثر المطلوب رأسهم للأجهزة الأمريكية في الحال والاستقبال .

هل فضيحة “بريزم” هي فضيحة أوباما؟

قطعاً سيناله نصيب واضح من الأذى لكنها إشكالية أمريكية عريضة لإمبراطورية دب الخوف في بدنها، وباتت لا تدرك أبعاد التوازنات الحقيقية للتسوية الضرورية اللازمة بين الحياة الخاصة والأمن، ما يعني أنها لم تعد ذلك البلد فوق الجبل الذي ينير للعالم حرية وديمقراطية، بل يصدر لها قلقاً في النهار وأرقاً في الليل إلى إشعار آخر .

About this publication