علي جرادات
بعد عقود على رحيل القائد السياسي للثورة الفيتنامية، هو شي منه، رحل قبل أسابيع قائدها العسكري الجنرال فونغوين جياب . قائدان قادا شعبهما في ثورة ألحقت الهزيمة بقوتين استعماريتين باغيتين: فرنسا في العام ،1954 والولايات المتحدة في العام 1975 . لذلك كان من الطبيعي أن يتدافع أبناء الشعب الفيتنامي لوداع الجنرال جياب في جنازة مهيبة هي الثانية -من حيث الحشد- بعد جنازة هوشي منه . ولا عجب . فجياب صار رمزاً ملهماً لشعبه، بل لكل الشعوب المستعمرة التي نالت الحرية والاستقلال تحت قيادة رجال كبار وعظام أسسوا وقادوا مشروع باندونغ، “دول عدم الانحياز”، وهم: هو شي منه وغاندي ونهرو وعبد الناصر وسوكارنو وماوتسي تونغ وتيتو وكاسترو وجيفارا . فقبل استقلال فيتنام التام والكامل أنهت حركات التحرر الوطني للشعوب المستعمرة “إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس”، بريطانيا، التي اضطرت إلى الجلاء الكامل عن “درة التاج البريطاني”، الهند، ثم عن الدولة العربية المركزية، مصر، وصولاً إلى استقلال إندونيسيا التام على يد سوكارنو . ماذا يعني هذا الكلام؟
بسقوط إمبراطورية الاستعمار البريطاني خرج نظام الاستعمار المباشر من التاريخ، وصارت كل محاولة لاستعادته، وإن بأشكال مختلفة، مجرد حلم أيديولوجي لا يجني غير الخيبة والهزيمة . لكن قادة الولايات المتحدة التي نشأت من رحم “بريطانيا العظمى” وحلت محلها في قيادة قوى الاستعمار الغربي لم يتعلموا الدرس من تجارب غيرهم، ولا حتى من تجاربهم الخاصة . فكان لهم أن حصدوا أكثر من هزيمة وجنوا عكس ما أرادوا أكثر من مرة . والشواهد على ذلك كثيرة، لعل أهمها:
* أولاً: في العام 1945 تغطرست الولايات المتحدة ووجهت ضربتها الذرية لليابان . فماذا كانت النتيجة؟ اليابان اليوم قوة لا تنافس الولايات المتحدة، فحسب، بل تتفوق عليها في بعض المجالات، كالتكنولوجيا، (مثلاً) .
* ثانياً: في العام 1948 تغطرست الولايات المتحدة وتدخلت في الحرب الكورية لا بهدف تقسيم كوريا، بل بهدف السيطرة عليها، وعلى منطقة الحدود المتاخمة لروسيا والصين تحديداً . فماذا كانت النتيجة؟ صحيح أن الولايات المتحدة كسبت ما بات يعرف بكوريا الجنوبية، لكن المنطقة التي أرادت الوصول إليها ظلت مع ما بات يُعرف بكوريا الشمالية التي لا تزال تدور في فلك الصين التي رغم كل محاولات الاحتواء الأمريكي لها صارت اليوم قطباً دولياً يسعى في السنوات الأخيرة إلى تحويل قدرته الاقتصادية والعسكرية الهائلة إلى مكانة سياسية من خلال الانضمام إلى محور “دول البريكس” الذي يضم إضافة إلى الصين كلاً من روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا . وهو المحور الذي أعاد التوازن إلى النظام الدولي وأنهى -عملياً- تفرد القطب الأمريكي وحليفه الاستراتيجي، الاتحاد الأوروبي، الذي صار مجرد تابع، بل ذيل، للولايات المتحدة .
* ثالثاً: في العام 1958 تمادى الطموح الأمريكي في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، وقلبه الوطن العربي، إلى درجة الدعوة إلى تشكيل “حلف بغداد” الذي أريد له أن يضم العراق والأردن وتركيا وباكستان وإيران . فماذا كانت النتيجة؟ رأى العرب بقيادة عبد الناصر آنذاك في هذا الحلف كارثة . فكان أن أسقطته الجماهير العربية، بل وسقط معه نظام نوري السعيد في العراق على يد الحركة التي قادها عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف .
* رابعاً: في العام 1968 بلغت غطرسة الولايات المتحدة في فيتنام إلى درجة أن يقول وزير دفاعها آنذاك، روبرت ماكنمارا: “سأجعل الغربال يتدحرج من شمال فيتنام إلى جنوبها من دون أن يصطدم بشيء” . فماذا كانت النتيجة؟ فقط بعد سبع سنوات، أي في العام ،1975 حلت بالقوات الأمريكية أكبر هزائمها العسكرية وأكثرها مهانة في تاريخها إلى درجة أن يضطر السفير الأمريكي في سايغون إلى الصعود إلى سطح سفارته بملابسه الداخلية وحافي القدمين، حيث انتشلته طوافة عسكرية .
* خامساً: في العام 2001 غزت القوات الأمريكية بمشاركة قوات حلف الناتو أفغانستان بهدف القضاء على تنظيم القاعدة وإسقاط نظام طالبان . فماذا كانت النتيجة؟ لم يعد تنظيم القاعدة محصوراً في أفغانستان، بل انتشر -تحت مسميات مختلفة- في الكثير من بلدان العالم وخاصة في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا . بل وها هي الإدارة الأمريكية اليوم تحاور حركة “طالبان” وبعض الدول المجاورة لأفغانستان بغرض تأمين خروج آمن لقواتها التي تكبدت خسائر بشرية ومادية ومعنوية كبيرة .
* سادساً: في العام 2003 تغطرست الإدارة الأمريكية بقيادة بوش الابن وغزت العراق واحتلته ودمرته بذريعة، بل بكذبة وجود أسلحة دمار شامل . فماذا كانت النتيجة؟ خروج قوات الاحتلال الأمريكي مدحورة وبعد تلقيها خسائر بشرية ومادية ومعنوية كبيرة، ما أفضى إلى تسليم النفوذ في العراق لإيران أو تقاسمه مناصفة معها .
* سابعاً: في بداية تسعينات القرن الماضي كسبت الولايات المتحدة الحرب الباردة وصارت قطباً منفرداً في النظام الدولي . وبلغت غطرسة إداراتها إلى درجة الاعتقاد بحلول “نهاية التاريخ” وتحويل دولة بوزن روسيا إلى دولة “عالم ثالثية” . فماذا كانت النتيجة؟ بعد نحو عقد ونصف العقد ها هي روسيا تعود قطباً دولياً منافساً بقوة للولايات المتحدة على قيادة العالم .
* ثامناً: على امتداد تاريخها، وخاصة بعد تفردها في النظام الدولي وتوحش نظامها الليبرالي الجديد، تعاملت الإدارات الأمريكية مع بلدان أمريكا اللاتينية كحديقة خلفية تابعة ليس إلا . فماذا كانت النتيجة؟ خسرت الولايات المتحدة هذه البلدان واحدة تلو الأخرى وصولاً إلى خسارة البرازيل التي تشكل نصف قارة أمريكا اللاتينية، مساحة وسكاناً، ولم تعد اليوم مجرد مزرعة للبن كما أرادتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بل صارت دولة صناعية متقدمة ولم يعد البن عاملاً أساسياً في اقتصادها .
قصارى القول: لقد تحولت كل حروب الولايات المتحدة للسيطرة على مراكز العالم الأساسية، إلى مغامرات، هي إما فشلت ومنيت بالهزيمة، أو نجحت مؤقتاً، لكنها جنت في التحليل الأخير عكس ما شاءت وأرادت . أما لماذا؟ لأن قادة الولايات المتحدة لم يتعلموا من دروس التاريخ وعواقب مكره، وللدقة لأنه ليس بمستطاعهم أن يتعلموا لأنهم ولدوا أصلاً من رحم نظام أوروبي استعماري استيطاني عنصري أباد، فيما أباد، عشرات الملايين من السكان الأصليين للقارة الأمريكية بعد اكتشافها .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.