لم يكن مسعى اميركا الجاد في ملاحقة سنودن مفهوما، بل انه ازداد غموضا بعد ان كاد يتسبب لها في ازمة دبلوماسية مع دول عدة من بينها روسيا قبل ان تسقط الستائر كاشفة عما جهدت واشنطن في اخفائه خلف كواليس الامر.
فسنودن كان يمتلك المفتاح الذي يفتح صندوق العجائب المشبع باسرار في غاية الخطورة والاهمية وهو صندوق وكالة الامن القومي الاميركية، فتلك الوكالة انخرطت في عملية مراقبة واسعة لهواتف وحواسيب شخصية على امتداد خريطة الكرة الارضية.
وامتلاك سنودن لهذا المفتاح جاء نتيجة لعمله في مجال المعلوماتية الذي كان العمود الفقري لاكبر عملية تجسس في التاريخ، ففي مذكرة قدمها هذا العميل الى صحيفة ذي هندو الهندية، اشار الى ان هذه الوكالة استخدمت نظامين تقنيين لجمع المعطيات. النظام الاول هو باوندلس انفورمانت الذي يتابع اي عدد من المكالمات الهاتفية والايميلات المطلوب مراقبتها والثاني هو بريزم الذي يقوم بتحميل وجمع محتويات الاتصالات والايميلات من شبكات المحمول والانترنيت.
واذا ما كنا نبحث عن تفسير لهذه المعلومات، فأن التفسير الوحيد والصريح هو ان اميركا يمكنها الولوج الى أية شبكة هاتف نقال او انترنيت في العالم ومراقبة جميع المشتركين فيها بكل بساطة بداعي الحفاظ على امنها القومي. وقد يبدو هذا الامر منطقيا من وجهة نظر اميركية لكن امتلاك التقنية الحديثة لم يواكبه امتلاك للقيم والاعراف الاخلاقية والاجتماعية والسياسية من قبل النخبة الحاكمة في واشنطن.
فقد كان الساسة ورجال الاعمال والشخصيات المؤثرة اجتماعيا واقتصاديا في مركز عملية التجسس يليهم الاشخاص العاديون الذين يقومون بمهامهم اليومية الآخذة بالاعتماد اكثر فاكثر على تكنولوجيا الهاتف النقال والانترنيت.
وقد يكون التجسس على السياسيين والشخصيات المهمة امرا روتينيا اعتادت عليه الدول في عملها الاستخباراتي، لكن المغزى من مراقبة هواتف اناس من عامة الشعب هو بالتأكيد امر غير مبرر كيفما فكرت به.
ان ما فتحه سنودن لم يتوقف عن الانفتاح اكثر واكثر ناشرا دهشة اشد واشد، فقد ابتدأ الامر بالمستشارة الالمانية ميركل التي استمع الاميركان لكل ما قالته على هاتفها على مدى عشرة اعوام وهي لاهية لا تعرف، وامتد الى رجال مهمين في المجتمع الاسباني وانتهى بحوالي 61 مليون مكالمة جرى اختراقها في شهر واحد في ذلك البلد.
ووصل الامر الى ذروته ربما، حين قالت وثائق نشرها موقع كريبتوم، ان وكالة الامن القومي قد تجسست على 125 مليار مكالمة حول العالم في شهر كانون الثاني من هذا العام.
قد يبدو هذا الرقم مهولا ومخيفا، لكنه ليس مخيفا بما يكفي مقارنة بتفاصيله، فقد تجسسوا على ثلاثة مليارات مكالمة في الولايات المتحدة و70 مليون مكالمة في فرنسا و361 مليون مكالمة في المانيا.
ولم يرق مستوى التجسس في اوروبا واميركا الى مستواه في آسيا والشرق الاوسط، فأفغانستان قد نالت الحصة الاكبر من التنصت مع 22 مليار مكالمة جرى اختراقها بمعدل 709 مكالمة لكل افغاني في الشهر. والسعودية تعرضت الى تنصت على 7.8 مليار مكالمة بمعدل 289 مكالمة لكل سعودي في الشهر.
والبلد الذي جاء في التسلسل الثالث هو بلدنا العراق الذي تجسس الاميركان على 7.8 مليار مكالمة فيه خلال شهر بمعدل 252 مكالمة لكل عراقي في الشهر او 19 مكالمة في اليوم. واذا ما اخذنا بالحساب ان هنالك 10 ملايين هاتف نقال في العراق، فأن الرقم سيصل الى التجسس على 780 مكالمة في الشهر للعراقي الواحد اي بمعدل 26 مكالمة في اليوم.
ان تلك الارقام تشير بوضوح الى مدى الاختراق الذي نتعرض له يوميا وكمية المعلومات التي تتوافر لدى غيرنا عنا نتيجة لتوظيف الهاتف النقال والانترنيت في تعاملاتنا اليومية حتى تلك المتعلقة بعملنا في دوائر الدولة.
ان حالة الابلاغ عن المخاطبات الرسمية والتعاملات المالية والقضايا الامنية والتدابير الادارية والاوامر التشغيلية، عبر الهاتف هي ممارسة شائعة جدا في مجتمعنا الوظيفي لذلك يجب التوقف على الفور عن هذه الممارسة واعتماد دوائر الاتصال المغلقة والبرقيات المشفرة والاوامر المكتوبة ورقيا والتعامل الشفوي بين مفاصل الدولة الى ان نرى ما تصل اليه الامور.
والدولة مطالبة بمخاطبة الجانب الاميركي للوقوف على حقيقة هذه الارقام والعمل الفوري على تقييم مدى الاضرار التي لحقت بالامن الوطني العراقي وامن المواطن وخصوصيته لتشرع بعد ذلك في اتخاذ الخطوات القانونية والدبلوماسية التي تضمن لمواطنيها التعويض المناسب لحجم الضرر الذي نالهم وتعزز امن البلد ضد أية اختراقات مستقبلية.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.