لكي لا نسأل كيف خسرت أميركا مصر
لم يبق من عجائب العالم القديم غير أهرامات الجيزة الفرعونية تقف شامخة بعد نحو 4500 سنة. عسكرت تحت ظلالها جيوش الفرس والإسكندر والروم والعرب والهكسوس والعثمانيين والإنجليز. وهناك حيث تنصهر حضارات آسيا مع أفريقيا ودول البحر المتوسط في بوتقة مصر، خاطب نابليون (1798) جنوده خاشعا: «يا جنود فرنسا.. أربعون قرنا تُحدّق بكم».
هذه مصر أفريقيا التي ولد من رحمها العالم يحوم على أطراف أهرامها شبح ثقيل يُخاف منه عليها. في موسكو قال المشير عبد الفتاح السيسي إن مصر فيها مشاكل «ضخمة وكبيرة»، محذرا من تكرار السيناريو اليمني والعراقي والليبي والسوري في البلد. فأي دركٍ يُراد لمصر أن تنتهي إليه؟.. وكيف ستنجو من هذا المصير؟
وإذا كان هناك من سيشكك في هذا التصريح، ويضعه في سياق تقديم المشير السيسي بشكل المنقذ، فمن المؤكد أن في هذا شططا، وما أكثره عند بعض منظري مراكز البحث في واشنطن ممن انبروا خلال العقد الأخير لتقديم تنظيم الإخوان المسلمين على أنه موجة المستقبل والممثل الحقيقي للمسلمين في المنطقة.
حتى لو سلمنا جدلا بأن في تصريح المشير بعض المبالغة، فلا ينبغي أبدا الاستهانة بالخطر المحدق بمستقبل مصر التي تتلمس طريقها نحو بناء نظام جديد قال عنه وزير خارجيتها نبيل فهمي في لقاء على إحدى الفضائيات مؤخرا إنه سيكون «ديمقراطيا». هذا بالطبع لا يلغي قلقا من بعض المؤشرات التي تسوقها تقارير وبيانات تصدر عن وسائل إعلام، بعضها يزعم وجود عنف ضد المتظاهرين.
بعض هذه الانتقادات منحاز ينطلق من موقف الدفاع عن تنظيم الإخوان المسلمين، وبعضها الآخر يرتكز على العقيدة الغربية الكلاسيكية السائدة التي تريد لمصر ولغيرها أن تتبع تفاصيل الخط الديمقراطي الانتخابي الذي يتسم به النظام الأميركي التقليدي. وعلى الرغم من أن الخبراء الذين ينتمون إلى الصنف الأخير يتمتعون بقدر من المصداقية والاحتراف فإنهم يجانبون الصواب عندما يطلبون من مصر ذات التاريخ المديد أن تستنسخ تفاصيل الوصفة الأميركية سياسيا وبجداول زمنية تُوضع عن بُعد. هؤلاء مؤمنون ولكن ينقصهم التواضع. أما الصنف الأول، المنحازون للإخوان، فهم منكبون على التوطئة لحاكمية هذا التنظيم في عموم المنطقة اعتقادا منهم بأنه ممثل شرعي للتيار الإسلامي «الصاعد» حتى لو تطلب الأمر امتطاء حصان الانتخابات لمرة واحدة فقط ليصل إلى مبتغاه.
حط السيسي ومعه فهمي رحالهما في موسكو الأسبوع الماضي، في خطوة قد تبدو على أنها ميل نحو الدب الروسي بعيدا عن واشنطن. الأميركيون من جهتهم سارعوا إلى انتقاد الهبة الروسية في محاولة التأثير على رسم مستقبل الرئاسة المصرية حين أعلن الرئيس بوتين تأييده للسيسي مرشحا رئاسيا لمصر. بعدها عجّلت واشنطن بإرسال جيفري فيلتمان للاجتماع مع الوزير فهمي لاستقراء الأمور واستدراك عواقبها.
من الطبيعي أن تسعى مصر إلى تعزيز قدراتها الأمنية ومعالجة مشاكلها الاقتصادية عن طريق التقارب مع موسكو وغيرها في ظل التهديدات الأمنية المتصاعدة في الداخل المصري. ولكن ذلك لا ينبغي أن يتم على حساب علاقاتها مع واشنطن لأن مثل هذا الانحدار لن يصب في صالح القاهرة، وما النصف الثاني من القرن العشرين إلا دليل على ذلك. وليس أدرى بذلك من الوزير فهمي الذي صرح بأن التقارب مع موسكو ليس بديلا عن واشنطن.
الخوف، كل الخوف، في أن تجد مصر نفسها في صخب التصادم الروسي الأميركي. هذا السيناريو سيعجل بحدوث ما يحذر منه السيسي من تكرار للقصة السورية في مصر.
يتعين فعل الكثير لترميم العلاقة المصرية الأميركية. لكن هذه المهمة لا تنحصر في الحكومتين فقط، بل يجب أن تمتد إلى جميع خطوط التماس مما يتطلب فكرا وتنسيقا وعملا لزمن طويل.
ليس أفضل من العمل من داخل واشنطن لمواجهة الموجة التي تدفع باتجاه توتير العلاقة مع القاهرة «دفاعا عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان». ومن واشنطن بالذات يجب أن ينطلق الرد على هذا التيار الرائج برسالة مركزة، من مراكز أبحاث ملتزمة بالدفاع عن المصلحة الأميركية العليا في بناء علاقة استراتيجية مع مصر وأصدقائها من العرب. رسالة تلقي الأضواء على الضرورة والفائدة من بناء أنظمة مستقرة وتعددية وصديقة في الشرق الأوسط قادرة على مواجهة خطر الإرهاب ودحره كما هي قادرة على الإنتاج والمنافسة. مصر، البلد الرائد الذي يجب أن يمارس ريادته، بإمكانها أن ترسل رسالتها ورسالة أصدقائها في المنطقة لواشنطن حيث يسمح النظام الأميركي بالتداخل والتفاعل. لن تخلو واشنطن أبدا من أولئك الذين يقومون بتعريفك ورسم صورتك إن أنت تقاعست عن تعريف نفسك.
مصر، أم الدنيا التي تحدى فراعينها الموت بالخلود، هي قائدة نفسها، وثورة شعبها العظيم أذهلت العالم، إذ غيرت حكومتين خلال ثلاثة أعوام.. مصر ستجد طريقها بنفسها وهي غير قابلة للاختزال.
أحد وجوه الخلاف المصري الأميركي هو فكري، فعقيدة أميركا الحقيقية هي الديمقراطية التي تمارس طقوسها بالانتخابات، وهي تقيس تجارب الدول الأخرى من خلال هذا المنظار، فليس غريبا أنها لا ترى في التجربة المصرية عنوان الديمقراطية العريض، وهنا مربط الفرس. لا ينبغي أن يكون من خيارات أميركا خسارة مصر وهي تمر بأصعب مراحلها. وعقلاء القوم في مصر وأميركا يدركون أهمية العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، كما يقدرون التبعات الثقيلة للتباعد. لن ينسى المصريون أن 45 قرنا تحدق بهم، وهم سيمرون بسلام وإن بعد حين، وسيفعل الأميركيون خيرا لو كفوا عن التهديد بقطع المساعدات عن مصر. أما العرب فلن يتخلوا عن مصر لأنهم يدركون أنها عمودهم الفقري، وروسيا التي خسرت مصر قبل نصف قرن تدرك هي الأخرى معنى الخسارة.
أكاد أرى كاتبا أو أكثر ممن يحلمون بتأليف كتاب في الوقت القريب بعنوان محزن: «كيف خسرت أميركا مصر؟».
لا يوجد كتابٌ أتمنى منع صدوره غير هذا.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.