يبدو أن البيت الأبيض، من خلال التسريبات الإعلامية كما عبر التصريحات شبه المباشرة، يعلن عن تبديل في المقاربة التي تعتمدها الحكومة الأميركية لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وذلك انسجاماً مع مطالب الحلفاء في المنطقة، وتحديداً المملكة العربية السعودية وتركيا، باتجاه السعي إلى التخلص من رأس النظام في دمشق، كجزء من الجهد المبذول للقضاء على تنظيم «الدولة». والواقع أنه من الصعب الركون إلى قناعة أن هذا التبديل سيتحقق، أو أنه لن تلحقه تبديلات أخرى تبطل مفعوله.
كانت تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما، قبيل إطلاق العملية العسكرية التي تستهدف تنظيم «الدولة»، قد جاءت لتثير قدراً من الاستغراب بل الاستهجان في الأوساط الإعلامية والسياسية في الولايات المتحدة، إذ هو أفاد يومئذ أنه لا خطة طويلة الأمد لديه لمواجهة هذا التنظيم، وذلك على رغم أن أعواماً كانت قد مرّت على اندلاع الأزمة السورية، وأسابيع طويلة على استيلاء تنظيم «الدولة» على الموصل وأجزاء شاسعة من العراق. وسارعت الآلة الإعلامية المساندة للبيت الأبيض للتأكيد على أن كلام الرئيس هو في شأن التفصيل لا الإجمال، حيث أنه عدة خطط مكتملة في إطار الدرس والفرز، وهو في سياق الاحتياط لرئيس يفضّل مصارحة الجمهور، بدلاً من إطلاق الوعود الواهية.
وبالفعل، فإن الرئيس نفسه بعد أيام قليلة بدّل اللهجة لتصبح قطعية وحازمة، فيما بدأت القوات الأميركية بتنفيذ خطة ظهرت لوهلة، لمن شاء التصديق، وكأنها مدروسة وهادفة. ولكن حتى مع اللهجة الصارمة التي اعتنقها الرئيس، كانت ثمة علامات استفهام، إذ أشار إلى أن هدف الخطة هو إضعاف تنظيم الدولة، وفي النهاية تدميره، مع التوضيح بأن المعركة طويلة. أي أن السعي الأولي ليس لتدمير هذا التنظيم، وأنه لا يجوز توقع النتائج الفورية.
والعبارة المضطربة، بشأن الخفض والإنهاك، كانت إرهاصاً بمقاربات متخبطة توالت في الأسابيع التالية. فتكاثرت الأسئلة التي بقيت من دون أجوبة وافية: هل الهدف طرد تنظيم «الدولة» من العراق، أو ملاحقته وتدميره في سورية؟ ذلك أن شحة الطلعات الجوية والضربات لم تكن تفيد بأن التنظيم سيواجه قوّة قاضية قادرة على تدميره. وما الداعي لاستهداف الأطراف المعادية لهذا التنظيم من التنظيمات الجهادية، وليس جبهة النصرة وحسب ذات العلاقة بتنظيم القاعدة، على رغم انكفائها عن الأعمال المعادية للولايات المتحدة، بل تنظيمات محلية أخرى. وما حقيقة تنظيم «خراسان» الذي وصفته التسريبات والتصريحات على أنه أخطر من تنظيمي الدولة والقاعدة، والذي لا يبدو أن أحداً في أوساط الجهاديين على علم بوجوده؟ وهل يمكن الحكومة الأميركية بالفعل ألا تدرك أن ضربها لهذه الأطراف سيحفّز النظام ويدفعه إلى السعي للاستفادة من الفرصة من جهة، وسيفقد التشكيلات الموسومة بالمعتدلة، والمتواققة في الرؤية مع الولايات المتحدة كل الصدقية وينقلها من خانة الثوار إلى خانة العملاء؟
والجواب عن السؤال الأخير، على رغم الغرابة، هو أن الحكومة الأميركية بالفعل كانت غافلة عن هذه النتائج البديهية. فلا الرئيس أوباما ولا كبار مساعديه من ذوي الخبرة بالشأن السوري ومتعلقاته، ولا هم بذلوا الجهد المطلوب لاستشفاف العواقب. النتيجة هي بالتالي تقييم سريع بعد أسابيع من الإضرار يؤدي إلى مراجعة واستدراك وإشهار النية للتصويب.
فالموقف المعلن اليوم هو بموازاة استهداف تنظيم «الدولة» بتطويق وتقويض للطغمة الحاكمة في دمشق، بما يرضي الحلفاء. ولكن ما يرضي الحلفاء يرفضه الخصوم. فليس ما يفيد أن روسيا على استعداد لمباركة هذا التوجه، أو أن أوباما متأهب لمناطحة موسكو. ثم أن الرئيس يواجه لتوّه في واشنطن معارضتين لحربه الجديدة في الشرق الأوسط. الأولى تأتيه من صميم قاعدته السياسية، أي من حمائم اليسار التقدمي، وتعتبر أنه، بغضّ النظر عن تجاوزات تنظيم «الدولة»، فمن الأصح عدم التورط بمغامرة عسكرية جديدة، وتحذّر من الانزلاق في توسيع نطاق المهمة، بل ترى أن كل تبديل أقدم عليه الرئيس في الأسابيع الماضية كان باتجاه الزج بالمزيد من الأعداد والعتاد في المعركة. أما المعارضة الثانية فمن خصومه السياسيين، من صقور اليمين المحافظ، في شقّه التدخلي الذي كان انكفأ أمام التململ الشعبي من حربي أفغانستان والعراق، إذ يرى هؤلاء أن اعتراضهم على الانسحاب السريع من العراق كان في محلّه، وموقفهم اليوم هو عدم تكرار الخطأ في أفغانستان، وإعادة جدولة خطوات الانسحاب وفق ما تقتضيه الأوضاع على الأرض، وكذلك الإقرار بأن المسألة في العراق وسورية تتطلب تدخلاً فعلياً، وليس مجرد ضربات من بعد، مهما كانت مؤلمة. وهذا الفريق لا يحظى اليوم بواسع التأييد في صفوف المواطنين في الولايات المتحدة، ولكنه يعتمد على النفور المتعاظم في الثقافة والمجتمع الأميركيين من تنظيم «الدولة» وكل ما يمت إليه بصلة، وهو النفور الذي أرغم الرئيس على التدخل بعد ذبح الصحافيين الأميركيين، للمطالبة بإرسال الجنود وخوض معركة فعلية.
ولا شك في أن المعركة تفرض نفسها، فعلى رغم أن الرئيس وضع خطوطاً حمراً لا يمكن تجاوزها بشأن إرسال الجنود، فإن مقتضيات الساحة تفرض عليه مساندة القوى البرية القليلة المتوافقة معه، ولا بد بالتالي من «خبراء» و «مدربين» في مهمات قابلة للتوسع.
وأوباما اليوم أعلن قراره المضي قدماً في مواجهة تنظيم «الدولة»، كما سبق أن أعلن عزمه على متابعة التسوية السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وخطواته المترددة في هذه كما في تلك محكومة باعتبارات الناخب والحليف، وعلى رغم أنه في العامين المتبقيين من ولايته الثانية والأخيرة لم يعد عرضة للتهديد الانتخابي، فإنه يريد لنفسه سمعة قائمة على الصدقية، كي يتمكن من ممارسة أي نشاط بعد انتهاء دوره الرئاسي، أي أن ثمة ما يحبّذ عنايته بهذه القضية. إلا أن سلوكه المتذبذب بشأنها، وسجلّه في القضايا المشابهة، كما الضغوط التي يواجهها من أكثر من جبهة، لا تنبئ باستقرار الرؤية والقرار. وإدراك هذه الحال واجب على الحليف والخصم على حد سواء.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.