قد يكون باراك أوباما رئيساً ناجحاً، إلى حدٍ نسبي، في إدارة الشأن الداخلي الأمريكي ومعالجة الأوضاع الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة الأمريكية . وهو فعلاً نجح في انتشال الاقتصاد الأمريكي من قبضة أزمة عميقة هزَّته في العام الأخير من الولاية الثانية لجورج بوش، وأفلح في تصفية الميراث الثقيل من المشكلات التي أنتجها عهد جورج بوش والمحافظين الجدد، نتيجة مغامراتهم العسكرية في العراق وأفغانستان . وليس شأناً قليلاً، في تاريخ الرئاسات الأمريكية وحصيلاتها، أن تتعافى أوضاع البلد الاقتصادية والمالية الكارثية في بحر سنوات معدودات، وأن تستعيد العملة قوتها ومرجعيتها النقدية العالمية، وأن تستعيد نسبة النمو الاقتصادي صعودها، ناهيك بتسوية ناجحة – أجراها أوباما مع الكونغرس – للتصديق على قانون الضمان الاجتماعي . ولقد كان ذلك كله، وغيره، مما ضمِن له الظفر بولايةٍ رئاسية ثانية قبل عامين، مطيحاً بحلم الجمهوريين بالعودة سريعاً إلى البيت الأبيض .
ليس في السياسة الداخلية لأوباما ما يُعاب عليه أو يتهم بالتقصير فيه، وهو فيها قد يكون واحداً من أنجح من تقلدوا منصب الرئيس في الولايات المتحدة خلال نصف القرن الماضي، وقد لا يضاهيه في النجاح الداخلي سوى الرئيس الأسبق الديمقراطي بيل كلينتون، الذي شهد الاقتصاد الأمريكي في عهده نهوضاً غير مسبوق قبل أن يخربه عهد بوش الابن المغامر . لذلك لا مجال للقول إن هزيمة “الحزب الديمقراطي” في الانتخابات النصفية الأخيرة للكونغرس، ونجاح “الحزب الجمهوري” في الحصول على الأغلبية في المجلس، إنما هي هزيمة لباراك أوباما . نعم، من المؤكد أنها ستقيده كثيراً، على الرغم مما يمنحه الدستور من صلاحيات للرئيس، وستجبره على الحصول على تأييد الكونغرس لإجازة الكثير من قرارات الإدارة، وهو التأييد الذي عادة ما يترافق في مثل هذه الحال، مع تنازلات يكون على الرئيس تقديمها لقاء الحصول على مثل ذلك التأييد . غير أن من تابع أداء إدارة أوباما، طوال السنوات الست الماضية، يلحظ أن أوباما لم يكن يحل أو يعقد من أمور سياسته من دون التعاون مع الكونغرس، حتى حينما كان للديمقراطيين من نواب وشيوخ حزبه أغلبية فيه .
ينبغي لهزيمة الديمقراطيين في الانتخابات النصفية أن تقرأ من مدخل آخر غير مدخل أداء أوباما “السيئ” على حد زعم الجمهوريين، أعني من مدخل المزاج السياسي العام للمجتمع والشعب في الولايات المتحدة، وخاصة لدى الجمهور الأعرض من المواطنين الذين لا ينتسبون إلى أي حزب من الحزبين الرئيسيين والذين عادة ما تتميز ولاءاتهم السياسية وسلوكهم التصويتي بالتقلب والتبدل، وهو مزاج لا ينفصل عن طبيعة النظام السياسي الأمريكي، وعلاقة التوازن التي تحكم مؤسساته ومراكز القرار في الدولة، حتى لا نقول إنه (المزاج) لا يتعارض وتركيبة النظام والثقافة السياسية السائدة، ويمثل وجهاً من وجوهها ونتيجة موضوعية لها .
إذا كان دستور الولايات المتحدة قد أحاط الديمقراطية في البلاد بضمانات قوية، منها توزيع السلطة بين الولايات والإدارة الفيدرالية، وبين هذه الأخيرة والكونغرس، منعاً لاحتكار السلطة، مازجاً في ذلك بين نموذجي النظام الرئاسي والنظام البرلماني (المعمول بهما في الأنظمة الديمقراطية الحديثة منفصلين) في نظام واحد، فإنه ولَّد ثقافة سياسية في المجتمع الأمريكي تقضي بالحرص على هذا التوازن إذا ما اختل، وتصحيحه حين يجمع حزب بين الرئاسة والغالبية النيابية والولاياتية (شيوخ الولايات في الكونغرس) . ولقد درج الرأي العام على تمكين مثل هذا التوازن بين الرئاسة والكونغرس من الحصول في معظم ولايات الرؤساء المتعاقبين على البيت الأبيض، وخاصة أولئك الذين يمنحهم الناخبون تفويضاً لولاية ثانية، أي لولاية يكون فيها الرئيس مستعداً سياسياً لاتباع سياسات واتخاذ قرارات حاسمة لم يكن يقوى عليها في ولايته الأولى مخافة أن يخسر انتخابات الولاية الثانية . ليس في هزيمة الديمقراطيين، إذن، مايستغرب له أمام نجاحات إدارة أوباما في الشؤون الداخلية، ولا ما يحمل على الاعتقاد أنها عقاب له على سوء إدارته . إنها ترجمة لذلك المزاج السياسي العام، الباحث عن التوازن، والتي هي في الوقت عينه ترجمة لطبيعة النظام السياسي في الولايات المتحدة . لقد كان أوباما محظوظاً بظفره بولاية ثانية، فيما لم يظفر بها جورج بوش الأب الذي سجَّل عهده نزيف الاتحاد السوفييتي (السابق) في أفغانستان، وانفراطه وانهيار “المعسكر الاشتراكي” وتدمير العراق في حرب “عاصفة الصحراء”، وانعقاد “مؤتمر مدريد” لتسوية الصراع العربي “الإسرائيلي”، وسوى ذلك من الوقائع التي حوّلت الولايات المتحدة إلى قطب وحيد، بل أوحد، في العالم . والسبب؟ الرغبة في تغيير النخبة الحاكمة وإعادة توليد التوازن في مؤسسات الدولة .
حين سيخرج أوباما من البيت الأبيض، بعد عامين، سيغادر موقعاً في الدولة ليحتل مكاناً مرموقاً في سجل رؤسائها كواحد من أنجحهم في إدارة شؤونها الداخلية، وإنقاذ اقتصادها من الانهيار . لكن صورته في السياسة الخارجية ستبدو أشرخ وأقل صفاءً من الأولى بكثير، فهو فيها لم يكن متعثراً فحسب، بل كان فاشلاً بامتياز: وتلك مسألة أخرى .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.