حين يصبح «مكتوباً» على الولايات المتحدة وروسيا أن تتعايشا في ميدان عمليات واحد، كما الحال في سورية، فسيكون على بقية الأطراف الإقليمية أن تتحسس رؤوسها. يطلق وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون استراتيجية بلاده الجديدة في سورية، لكنه من داخل النص يقرأ السمات المتقدمة لسياسة بلاده الجديدة في الشرق الأوسط.
ووفق ما قدمه وزير الدفاع جيمس ماتيس مكملاً ما نفخ به زميله تيلرسون، فإن واشنطن تعود إلى المواجهة لوقف صعود صيني بات مقلقاً ولكبح جماح روسيا التي زينت سورية لها أمر ارتقائها نحو قمة العالم. يكشف رجال الديبلوماسية والدفاع في الولايات المتحدة أن ذلك النأي الذي مارسته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عن الانخراط الفعلي والفاعل في أزمة سورية، أتاح تقدماً لبكين وموسكو، وأن العودة إلى سورية هي الفيصل في استعادة زمام أمور زعامة الولايات المتحدة على العالم أجمع.
ربما في الأمر مفارقة. ذلك أن التحوّل الأميركي في الشرق الأوسط سريع الوتيرة انقلابي الخيارات تعوزه رصانة وثبات يليقان بالدولة العظمى في العالم.
فلا خيط عقلانياً يجمع بين قرار ترامب في شأن القدس ودعم الأكراد في سورية ومواجهة إيران وتعظيم التحالف مع دول الخليج. ولن نهضم نظريات تبيع حكمة من وراء ما هو ارتجالي انفعالي في خيارات واشنطن وتعتبرها واجهة لخطط جذرية متينة قادمة لإحلال السلم والعدل في المنطقة.
فجّرت واشنطن قنبلتها السورية فأصابت شظاياها أطرافاً قريبة وأخرى بعيدة جداً. ذلك أن تركيا كادت تعتبر الأمر عدواناً فيما رأت فيه موسكو تدخلاً غير شرعي وراحت طهران من خلال دمشق تهدد برد الاعتداء الغاشم. في الوقت ذاته صدر في باكستان والصين وأفغانستان والهند، ما جعل من «التفصيل» السوري حدثاً بيتياً له دلالات كبرى.
تدخل الولايات المتحدة إلى «عقــــر دار» روسيا وإيران، وهنا بيــــت القصيد. أسقطت واشنطن عقد الشراكة الملتبس الذي أبرم بين أوباما وفلاديمير بوتين. لم تكن شراكة بالمعنى الدقيق، بل كانت غضَّ طرفٍ أميركي يشبه الرعاية الكاملة لخطط سيّد الكرملين في هذا البلــــد. تمّ تقاسم الأدوار بين الدولتين، بحيث يبقى التنافر تقليدياً حول أوكـــرانيا على أن يكون تواطؤاً كاملاً في سورية. أوفى بوتين بقسطه من العقــــد، بأن أشرف على سحب سلاح النظام الكيماوي (الذي ثبت لاحقاً أنــــه لم يسحب) وسهر على صيانة أمــــن إسرائيل في سورية وراحت آلته العسكرية تحرق وتدمر على نحو لا تريد المنظومة الغربية التورط فيه، وسعى بدأب الى صناعة حلّ سوري يقي الغرب إرهاباً ومهاجرين.
تقادمت الشراكة السابقة بين واشنطن وموسكو في سورية. بات لواشنطن قواعدها العسكرية وطائرات مسيّرة تغير على قواعد روسية، وفق اتهامات موسكو. وبات على بوتين إعادة قراءة موقعه السوري وفق المعطى الأميركي الجديد. ومن تأمل ردود فعل روسيا منذ إطلاق تيلرسون «قنابله»، نستنتج حصافة عالية في مقاربة المستجد ودقة كبيرة في انتقاء صيغ التعبير. فبوتين متمرس في التحديق في ما هو بعيد، فيما الآخرون مستغرقون بالجلبة القريبة. يعرف الرجل أن أميركا تغيرت وأن عليه فقط تغيير شروط الشراكة.
على هذا ترتسم يوميات الخطط الأميركية في سورية، على إيقاع التحقيقات الداخلية الأميركية المتعلقة بمسؤولية روسيا في التلاعب بالانتخابات التي أتت بدونالد ترامب إلى البيت. وفي ضوء تقدم وتراجع التهم التي قد تكال إلى الكرملين والبيت الأبيض، ستتبدل وتتصّدع وتتعدّل سطور الشراكة الجديدة المفترضة بين موسكو وواشنطن في سورية. يدرك رجل روسيا القوي أن آستانة وسوتشي باتتا قرقعة لا مستقبل لها من دون رعاية أميركية كاملة. فواشنطن أعادت تأهيل جنيف من جديد بصفته المدخل الشرعي الوحيد لأي حل حقيقي في سورية.
لكن الحدث السوري بالنسبة إلى واشنطن يضاف إلى الحدث العراقي أيضاً ،من حيث العودة لتحدي إيران داخل مناطق لطالما اعتبرت ساقطة داخل نفوذها. يأتي التدبير الأميركي في سورية مكملاً لمسار أميركي عتيق أسس لعودة عسكرية وسياسية كاملة تحت مسوغ مكافحة تنظيم «داعش» في العراق. وفي الإعلان عن بقاء القوات الأميركية في سورية ما يأتي ملتحقاً بموقف ترامب من الاتفاق النووي، وربما تحضيراً لما تؤكد مراجع أميركية أنه عزم على الانسحاب من هذا الاتفاق على رغم تمسك الأوروبيين به. واللافت أيضاً، والذي يقلق طهران ويستفز داخلها البحث عن أدوات خلاقة للرد، أن المواجهة الأميركية لنفوذ إيران في المنطقة تأتي مباشرة بأدوات أميركية خالصة من دون المرور بالوكلاء والحلفاء في المنطقة. وكأن سياسة حافة الهاوية التي احترفتها إيران أضحت معتمدة في واشنطن أيضاً تستدرج الصدام.
قد تستفز سياسة واشنطن الجديدة في سورية الجميع، روسيا تركيا وإيران. لكن روسيا لن تصطدم مع واشنطن وكذلك لن تفعل تركيا، على رغم الصخب العسكري حول عفرين. فبين تلك البلدان حسابات دقيقة التي لا تتيح أن يتحوّل تناقض المصالح إلى مواجهة ميدانية. تعرف واشنطن ذلك، وهي في مقاربتها الهجومية تجذب الشركاء-الخصوم إلى تموضع آخر يفضي إلى توازنات جديدة. في المقابل، فإن طهران هي الوحيدة التي لها مصلحة في تقويض الوجود الأميركي في سورية كما فعلت سابقاً في العراق وأفغانستان.
ومع ذلك، فإن إيران التي اهتزت مدنها، على وقع التظاهرات الأخيرة والتي تراقب الزلزال القادم المتعلق بمستقبل الاتفاق النووي وتقلق من انفجار بنيوي داخلي على خلفية عدم القدرة على استشراف مستقبل النظام بعد خامنئي، لن تقوى على فتح جبهة إضافية ضد واشنطن لا من خلال «حرسها» الثوري ولا من طريق ميليشياتها التابعة. تعرف واشنطن ذلك، وتطلق في سورية عملية تقويض كبرى ضد إيران تنهل من حقد عتيق أحيا الأميركيون ذاكرته مؤخراً في نبش غريب لحدث عتيق تمّ ضد ثكنة المارينز في بيروت منذ أكثر من ثلاثة عقود.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.