أصبحنا فى الأيام الغاربة لعام ٢٠٢١ مع انتظار لشروق عام آخر ٢٠٢٢، هى لحظات من الترقب الذى لا يخلو من استعادة لما جرى وانتظارا لما سوف يأتى. للمهتمين بالعلاقات الدولية لا ينفك اهتمامهم بالولايات المتحدة ورئيسها وإدارتها بعد ثلاثة أرباع قرن من القيادة والسيادة على العالم، والتى تراوحت ما بين الحكمة التى وضعت النظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية من إنشاء للأمم المتحدة والمنظمات الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، وما بين الكثير من الحماقة التى قادتها إلى فيتنام والعراق وأفغانستان. أيا ما كان بين الحكمة والرجاء فإن شخصية الرئيس الأمريكى دائما مثيرة، وعلى مدى الخمسين عاما الأخيرة فإن شخصية الجنرال أيزنهاور الذى قاد جيوش الحلفاء للانتصار على النازية فى الحرب العالمية الثانية غلبت كثيرا على شخصية الرئيس بعدها.
العكس جرى تماما مع جون كيندى الذى غلبت شخصيته الرئاسية بكل ما فيها من حيوية الشباب، والعلاقات النسائية، وحتى شخصية زوجته جاكلين كيندى، حتى جاء اغتياله الدرامى لكى يعيد الأمريكيين، ومعهم العالم مرة أخرى، إلى الأرض بعد أن أخذهم بأحلامه فعليا إلى القمر. الرئيس جونسون كان أبعد ما يكون عن كل ذلك فقد خضبت أياديه الدماء الأمريكية التى سالت فى فيتنام بقدر ما كانت الدماء الفيتنامية صرخة فى وجه العالم.
المدهش أن كل ذلك أخذنا إلى الرئيس ريتشارد نيكسون الذى أسقطه الأمريكيون فى الانتخابات لصالح كيندى، ثم عادوا وانتخبوه مرتين كى يطيحوا به بعد فضيحة «ووتر جيت». لم ينفعه كثيرا أنه فتح الأبواب مع الصين وأقام وفاقا مع الاتحاد السوفيتى، وبعد جملة اعتراضية صغيرة جاء فيها الرئيس فورد فإن ولاية الرئيس كارتر اقتصرت على فترة رئاسية واحدة كان فيها إنجاز وحيد، وهو وضع البداية الأولى للسلام فى الشرق الأوسط.
العالم الجديد بدأ مع ولاية الرئيس ريجان الذى نجح فى استدراج موسكو إلى سباق تسلح قطع أنفاس الاتحاد السوفيتى، ومع الأنفاس المقطوعة انهار القطب الاشتراكى، ومعه حلف وارسو. ختم على ما جرى اسم النظام العالمى الجديد الرئيس جورج بوش الأب بعد الحرب المنتصرة فى الخليج، لكنه لم يصمد كثيرا أمام شباب بيل كلينتون الذى جعل قيادة العولمة وسيلة لقيادة العالم ودفعه فى اتجاهات ديمقراطية وليبرالية. ولكن ذات الشباب قاد الرجل وأمريكا إلى فتاة جميلة وصغيرة السن لكى تضع البدايات الأخلاقية لانهيار الحلم الأمريكى فى قيادة العالم.
الانكشاف ظهر بقوة ليس فقط فى عجز القيادة الديمقراطية عن الاستمرار، وإنما فى سلسلة من تبادل السلطة بين جورج بوش الابن الجمهورى، ومن بعده باراك أوباما الديمقراطى، والذى جاء كرد فعل له دونالد ترامب الجمهورى، ومعه فشله الذريع فى الإدارة لم يستمر أكثر من فترة واحدة جاء بعدها جوزيف بايدن رافعا مرة أخرى الديمقراطية والليبرالية كأعلام لنظام آخر جديد. ولكن بايدن جاء متأخرا كثيرا، فقد أصبحت الغلبة فى دول العالم لنظم سياسية أخرى إما أن لها وجهة نظر أخرى فى الشكل الديمقراطى التقليدى أو أن لديها تركيزا أكبر على الإنجاز والفاعلية، وفى العموم لم تعد الغالبية من دول العالم متبنية نظما سياسية تقوم على الكثير من الشقاق الديمقراطى والعجز عن مواجهة البلاء والجوائح.
ومن يراجع الطريقة التى أتى بها بايدن إلى البيت الأبيض فإن كثيرا منها كان يدور حول أمور أولها القضاء على جائحة كوفيد- ١٩ وعودة الولايات المتحدة للعمل والإنتاج. وثانيها توحيد الأمة الأمريكية مرة أخرى بعد شقاق دام لفترة رئاسية كاملة. وثالثها توحيد الحلفاء فى غرب أوروبا وغرب الباسفيك تحت القيادة الأمريكية بالطبع. ورابعها إدارة العلاقات مع روسيا والصين – القطبين الآخرين فى النظام الدولى- بحزمة من الضغوط ومعها حزمة أخرى من الإغراءات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية.
وخامسها فإنه حتى تجمع أمريكا قوتها لكى تحقق كل ذلك فإن الانسحاب الأمريكى من الشرق الأوسط واجب، واستبدال التواجد العسكرى بتواجد دبلوماسى كثيف. وراء كل ذلك كان الرئيس بايدن، مع كبر سنه النسبى، يحاول كثيرا التعبير عن الحيوية، وهو الرجل كبير السن، من خلال الصعود إلى خشبة مسارح الخطب التى يلقيها من خلال الجرى لمسافة قبل الوقوف أمام الميكروفون تنافس تلك التى اعتاد سابقه أوباما القيام بها فى حلبة الانتخابات أو عند الهبوط بسرعة وابتسامة واسعة وهو على سلالم الطائرة.
الآن مضى عام تقريبا على قيادة بايدن للولايات المتحدة تراجعت فيها شعبيته كثيرا بعد فشل ذريع فى التعامل مع الوباء حتى إن عدد الضحايا زاد على ٨٠٠ ألف، ومازال فى الارتفاع، حتى تجاوز المعدلات المزرية التى جاءت فى عهد سابقه ترامب. ورغم كثير من المظهريات مع مجموعة الدول السبع ودول الاتحاد الأوروبى وحلف الأطلنطى، فإن الرجل لم يكن مقنعا لا فى استعادة الرابطة الوثقى بين الحلفاء، ولا فى مواجهة الخصوم فى روسيا والصين لا فى أوكرانيا ولا فى بحر الصين الجنوبى.
وجاءت صورة الانسحاب الأمريكى من أفغانستان مزرية فى تنظيمها وإجرائها، وبدا أن الأمر لا يحدث فقط فى إقليم الشرق الأوسط، وإنما العالم كله. صدقت تنبؤات المنافسين فى أن الخروج الأمريكى من العالم لم يعد تغييرا فى الوسائل، وتبديلا للقدرات الغاشمة بأخرى ذكية وفعالة، وإنما هو انسحاب بات يعبر عنه نوبات الضعف الجسدى الذى يلم برئيس أمريكا فى المقابلات التى يجريها مع قادة الدول الأخرى. أصبح الرئيس شاحبا عليل الحركة، وكان ذلك فى أول أعوام السلطة، وبات السؤال الأمريكى هو: ماذا سوف يكون عليه الحال عند نهاية الفترة الأولى، وهل يكون الرئيس مؤهلا لفترة ثانية، وإذا لم يكن كذلك فهل تصلح نائبته السيدة كاميلا هاريس لإقناع الناخب الأمريكى بأن تكون الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.
داخليا فإن حصاد السنة الأولى ليس مبشرا، ورغم الثقة الكبيرة التى أبداها بايدن خلال شهوره الأولى فى البيت الأبيض فإن الرئيس فشل عدة مرات فى مواجهة الوباء. لم يحقق نسبة تلقى اللقاح التى وعد بها ناخبيه والبالغة ٧٠٪ من الشعب الأمريكى فى يوليو الماضى. والحقيقة أن هذه النسبة لم تتحقق حتى الآن مما دعا الرئيس إلى استبدالها بالحديث عن التلقيح الإجبارى، وهو الأمر الذى خلق تناقضا سياسيا ربما لن تحسمه إلا المحكمة الدستورية العليا. أضاف بايدن انفلاقا جديدا للسياسة الأمريكية يضاف للانفلاقات السابقة التى نوه فيها عن رغبته فى زيادة عدد مقاعد المحكمة الدستورية العليا، وتقييد «الفلباستر» أو حق المماطلة فى أحاديث الكونجرس. أكثر من ذلك أنه خلق فلقا جديدا داخل الحزب الديمقراطى بعد أن أعطى «التقدميين» على اليسار من حزمة بعضا من التنازلات التى لم تعطه حلفاء جدد داخل الحزب، وإنما
قدمت له كثيرا من الخصوم. بات الانقسام الديمقراطى الجمهورى أكثر عمقا حتى بات يمس بالحماس فى عدد من الولايات الأمريكية لممارسة حق الانفصال الذى لم يستخدم منذ الحرب الأهلية.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.