لماذا ستندلع الحرب بين أمريكا والصين؟
“أنا مستعد لملء الفراغ في القيادة العالمية الناجم عن تحول الولايات المتحدة الأمريكية
للداخل أكثر من كونها قوة عالمية”.
إن هذه الكلمات التي قالها الرئيس الصيني في مطلع 2017 قد تكون كافية لإشعال حرب عالمية ثالثة بين النسر الأمريكي الذي يفرض هيمنته على العالم بدون منازع منذ عقود وبين التنين الصيني القادم من الشرق الذي قد لا يروي ظمأه إلا إزاحةُ أمريكا عن عرش قيادة العالم.
كيف لا ونحن نتحسس نيران حرب تحت الرماد تكاد تفتك بالعالم برمته وتمسح وجوده، فإن ما قاله الرئيس الصيني ليس إلا تتويجاً لخلافات ضاربة في الأعماق بين بكين وواشنطن.
ثم جاءت رسالة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن “أمريكا عادت”، تأكيداً على هذا الصراع المستعر بين البطل القديم والقادم الجديد.
الخلاف بين التنين الصيني والنسر الأمريكي ليس وليد اللحظة بالطبع وليس بعيداً عن تفكير العقل الأمريكي الذي يدرك جيداً أن القوة الاقتصادية الصاعدة في أقصى الشرق ستدك معاقل القوة الأمريكية، ولا بد، إن لم تتحرك واشنطن سريعاً لمواجهة هذا المد الصيني المخيف.
وإننا إذا أردنا أن تستعرض أسباب الصراع بين “قطبي العالم الجديد” فإنا سنجد استحكاماً للخلافات بينهما في كثير من الميادين والساحات وعلى العديد من الصعد، مما قد ينبئ بخطر قد يفتك بالبشرية إن لم يجد الطرفان نقاطاً يتفقان عليها، وفيما يلي استعراض لأهم نقاط الخلاف بين الطرفين.
الدولار واليوان
صاحب العملة الأقوى يحكم العالم: ثبتت الصين سعر صرف اليوان أمام الدولار الأمريكي وهذا يعني أن بكين عملت على تثبيت قوة العملة الصينية وسيطرتها مقابل الدولار، مما شكَّل تخُوفاً لحكام البيت الأبيض، إذ إن الصين بذلك تدعم منتجاتها المختلفة في الأسواق العالمية، فذلك يؤدي إلى زيادة صادرات الصين باعتبار أن أسعار منتجاتها أرخص من مثيلاتها الأمريكية، كما أنه يؤثر بشدة في الصادرات الأمريكية، ويقلل العائد من صادرات الولايات المتحدة، وهو يزيد من قيمة العجز التجاري بين البلدين.
وقد بلغت قيمة الواردات من الصين إلى أمريكا خلال العام الماضى 463 مليار دولار، مقابل صادرات 116 مليار دولار، بعجز تجارى وصلت قيمته إلى 347 مليار دولار. وقد تعزز القلق الأمريكي عندما أزاحتها الصين عن عرش التجارة العالمية في 2013 وصارت الصين أكبر دولة تجارية في العالم.
طريق الحرير لحكم العالم
في عام 2013، أطلقت بكين رسمياً “مبادرة الحزام والطريق” المعروفة اختصاراً بـ “BRI”، بهدف تطوير التعاون الاقتصادي بين الدول الواقعة على طول طريق الحرير التاريخي، الذي تسعى الصين إلى تفعيله بحلول 2049.
ويعد هذا المشروع تهديداً مباشراً لأمريكا لأن الصين تسعى إلى ربط العالم كله بها لتصبح هي مركز العالم وحاكمته الأولى بغير منازع.
وأصبح بناء البنية التحتية الاقتصادية، مثل طرق ووسائل النقل، ضرورياً لتعزيز الترابط الاقتصادي وتسهيل التجارة. ونتيجة لذلك، بين عامي 2013-2018، ذهبت النسبة الأكبر من الاستثمارات الخارجية الصينية إلى البنية التحتية المادية لتلك الدول مثل الموانئ وخطوط السكك الحديدية، حيث بلغ إجمالي الاستثمار الصيني في هذا المجال نحو 90 مليار دولار، في حين استثمرت بلدان مبادرة الحزام والطريق المَعنية أكثر من 40 مليار دولار في الصين، وبذلك وضعت الصين يدها على الكثير من الدول، وصارت الكثير من الدول أسيرة المال الصيني.
“أزمة هواوي”
أُطلق على التعاون الاقتصادي القائم على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتطبيق التقنيات الجديدة الأخرى في بلدان مبادرة الحزام والطريق اسم “طريق الحرير الرقمي” وبسبب نجاحها الواسع، دُمجت مبادرة الحزام والطريق في خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030 لتحقيق أهداف التنمية.
إلا أن طريق الحرير الرقمي هو أكثر بكثير من مجرد مشروع بنية تحتية تكنولوجي. بالنسبة للصين، يُعَدُّ هذا الطريق حلًّاً أقل تمحوراً حول الولايات المتحدة، ونظاماً رقمياً آسيوياً وعالمياً أكثر تمركزاً حول الصين.
ويقود أعمال هذه البنية التحتية شركة “هواوي العملاقة” التي تعد رأس الحربة التكنولوجية الصينية في مواجهة أمريكا، ولذلك فرضت أمريكا عقوبات شديدة على الشركة لأن الولايات المتحدة تدرك خطورة سيطرة الصين و”رأس حربتها “على كابلات الإنترنت في العالم، مما يشكل خطراً حقيقياً على مكانة واشنطن وسيطرتها الرقمية والمعلوماتية في العالم.
تهدف الصين من خلال هذه المساعي في النهاية إلى تمكين فتح أسواق جديدة لعمالقة التكنولوجيا الصينيين مثل “Alibaba” و”Tencent” و”Huawei”، وتعزيز الاتصال الرقمي العالمي مع الصين، إضافة إلى تقليل اعتماد الدولة على قادة التكنولوجيا الآخرين، وخاصة الولايات المتحدة واليابان وبعض الدول الأوروبية.
ويعتقد الرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل، إريك شميدت أن شبكة الإنترنت قد تنقسم إلى قسمين في غضون عشر سنوات. وقال إن سعي الحكومة الصينية لتنمية نفوذها السياسي والاقتصادي العالمي من خلال بناء التجارة في آسيا وأفريقيا عبر مبادرة BRI، والتي تشمل عشرات الدول، “سوف يسرع من إنشاء شبكة إنترنت تقودها الصين”.
الملكية الفكرية
بلغت الأزمة بين البلدين مداها مع تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عندما قال “الصين سرقتنا بمليارات الدولارات”، وهو يقصد سرقة حقوق الملكية الفكرية الأمريكية.
وفي 2017، قرر “ترامب” فتح تحقيقات تجارية في الممارسات المتعلقة بالملكية الفكرية في الصين، ونقل التقنيات الأمريكية إلى الصين دون مراعاة حقوق الملكية الفكرية الأمريكية، وهو ما ترفضه الصين رفضاً قاطعاً.
كما اتهمت واشنطن بكين أنها أرغمت شركات أمريكية على نقل ملكيتها الفكرية إلى الصين، وأن عدداً من الشركات الأمريكية خسرت مئات المليارات من الدولارات، وملايين الوظائف، والتي ذهبت إلى شركات صينية “استولت على أفكارها أو برمجياتها، أو أجبرتها على تسليم حقوق للملكية الفكرية لتنفيذ الأعمال في الصين”.
بحر الصين الجنوبي
يشكل بحر الصين الجنوبي ممراً لما قيمته 5 تريليونات دولار من التجارة البحرية العالمية السنوية، كما يُعتقد أيضاً أنه غني باحتياطي النفط والغاز، وتتنازع على سيادة البحر والممرات المائية المختلفة فيه ست دول مطلة عليه، وهي: الصين من جهة، وفيتنام، والفلبين، وتايوان، وماليزيا، وبروناي، الذين تساندهم واشنطن ضد بكين، وقد تصاعدت التوترات في المنطقة في الآونة الأخيرة.
وتزداد التوترات في البحر بسبب استمرار وإصرار الصين على تأكيد سيادتها على أجزاء واسعة من البحر، إذ أعلنت أحقيتها بنحو نصف البحر الجنوبي، مما دفعها لبناء عدد من الجزر الصناعية في أماكن مختلفة في البحر لفرض سيطرتها عليه.
تعد أزمة بحر الصين الجنوبي إحدى أبرز قضايا الخلاف بين الصين وأمريكا، بسبب تضارب المصالح بين الطرفين، ورغبة واشنطن وحلفائها في التضييق على الصين في بحرها.
وينظر مراقبون إلى الأزمة باعتبارها اختباراً رئيسيًّاً للمنافسة الصينية الأمريكية من الدرجة الأولى، إذ تتصاعد القوة العسكرية للصين، خاصة قوتها البحرية، وتحاول الولايات المتحدة تقييد تلك القوة للحفاظ على تفوقها الإقليمي والعالمي.
ترى الصين أن تايوان الديمقراطية التي تتمتع بالحكم الذاتي جزء من أراضيها التي ستستعيدها ذات يوم بالقوة إذا لزم الأمر. وواشنطن هي الحليف الرئيسي للجزيرة التي تزودها بالأسلحة، دون أن تعترف بها دبلوماسياً، وبكين تستنكر أي مبيعات أسلحة أو اتصالات رفيعة المستوى بين الولايات المتحدة وتايوان.
“تايوان جزء لا يتجزأ من أراضي الصين”، هذا قالته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشون ينغ في شباط/ فبراير الماضي، كما قالت الخارجية الصينية، إن “الولايات المتحدة تضخّم مرور سفنها الحربية عبر مضيق تايوان، إن كان قصدها إرسال رسالة لدعم استقلال تايوان، فإن هذه التصرفات لن تؤدي إلا إلى تسريع انهيار قوي لاستقلال تايوان، وستدفع الولايات المتحدة ثمناً باهظاً لأفعالها”.
ويرى مراقبون أن المبررات التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدخول أوكرانيا، تشابه مبررات الصين حول “حقها التاريخي” في جزيرة تايوان، وحماية نفسها من النفوذ الغربي.
الصراع على القارة الآسيوية وطموحات الصين لحكم العالم: تعمل الصين على تغيير توازن القوى في آسيا بشكل جذري، والحد من حيوية نظام التحالف الأمريكي- الآسيوي، وإبعاد الولايات المتحدة الأمريكية وحل محلها هناك لكي تصبح الصين هي القائد الآسيوي كبداية لمشهد قيادتها للعالم، وهذا من أبرز التخوفات التي لاحقت أوباما وترامب وتطارد الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن.
من أجل تحقيق هذا الأمر والوصول إلى منصب قائد آسيا، تستخدم الصين قوتها الاقتصادية لجذب الدول الآسيوية نحو الصين وتخليها عن أمريكا. كما أنها تسعى إلى زيادة القدرات العسكرية لديها لدعم وتعزيز الردع ضد التدخل العسكري الأمريكي في المنطقة، كل هذا إلى جانب تجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية في العقد الحالي.
سعي الصين للسيطرة على المجتمع الدولي لم يأتِ من فراغ، وإنما عملت له الصين كثيرًا على مدار السنوات الماضية، ولاحت طلائعه منذ بداية القرن الحالي، إذ إنها سعت للريادة في العديد من المجالات التي تشكل الأزمات الكبرى في العالم في الوقت الحالي، كمجال البيئة، والتغير المناخي، فضلًا عن قيادتها لاقتصاد القارة الآسيوية برمتها.
بعد أن أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى، أصبح لعضويتها في مجلس الأمن أهمية إضافية، وهي الحقيقة التي يبرزها رفض بكين أي توسع في هيكل المجلس يمكن أن يقلل من امتيازاتها طويلة الأمد.
كما أن القدرات المادية المتزايدة للصين جعلتها وثيقة الصلة بكافة مؤسسات النظام العالمي، وليس مستغرباً أنها سعت لتحقيق سلطة متزايدة في تلك الكيانات، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، على سبيل المثال، إذ عملت الصين على توجيه عملياتهم لخدمة مصالحها وأغراضها الخاصة.
الخلافات الصينية الأمريكية كثيرة وكبيرة وعميقة، وإضافة إلى كل نقاط الاشتباك السابقة فإننا نجد أيضاً الخلافات الأمريكية الصينية بخصوص اتفاقية المناخ واتفاق بكين مع باريس، وهو ما يعني اختراق الصين للحليف الأقوى لأمريكا “أوروبا”، ثم نجد موقف بكين المساند لطهران في خلافها مع القوى الكبرى، ونلحظ مواقف الصين المساندة لكوريا الشمالية، ثم تأتي أزمة كورونا التي تسميها واشنطن “الفيروس الصيني”، وأخيراً حروب التجارة والجيل الخامس من التكنولوجيا وخطوط الإنترنت.
وإن سبباً واحداً فقط من هذه الأسباب كفيل بإشعال حرب بين القوتين الكبريين فكيف ونحن نجد أن الأسباب تتضافر فيما بينها لتشكل معاً فتيلاً قد تشتعل ناره في أي لحظة؟
ولكن السؤال يبقى هنا، هل سيدخل الطرفان فعلاً في حرب لا تبقي ولا تذر؟ أم أن الحرب ستكون ذريعة ليجلس الخصمان على طاولة واحدة ويتقاسما مناطق نفوذهما الجديدة؟
ألا تكون الحرب التي تدور رحاها الآن في أوكرانيا حرباً بالوكالة بين أمريكا والصين، خصوصاً وأن الوضع الاقتصادي لروسيا لا يخولها دخول حرب كهذه؟!
ترى هل تصدق مقولة “فولفجانج هيرن” في كتاب التحدي الصيني: “نحن على أعتاب تحول تاريخي في الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية، حيث تضع إمبراطورية كبرى كالصين أقدامها على الطريق لتصبح قوة عالمية عظمى”؟
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.