مع اقتراب موعد الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من العراق في نهاية العام الحالي تطبيقاً للاتفاقية الأمنية الموقعة في خريف 2008,
كثف المسؤولون الأميركيون ضغوطهم على العراق من أجل تمديد وجود هذه القوات أو الإبقاء على جزء منها بعد نهاية العام, بإحدى طريقتين :موافقة عراقية رسمية تشرعن التمديد بحجة أن العراق رغب به و أميركا استجابت،وفي حال رفض العراق التمديد تقرر الإدارة الأميركية بمعزل عن الإرادة العراقية..!!
وأغرب مافي المسعى الأميركي نحو التمديد الذرائع التي تلطى بها وتكشف عن أنه رغبة أميركية قبل أن يتم تحويرها إلى رغبة عراقية تحت الضغط والإكراه وحتى التصرف من جانب واحد بدليل قرار وزير الدفاع الأميركي الجديد ليون بانيتا بتنفيذ عمليات عسكرية بصورة منفردة خلافاً لنصوص الاتفاقية الأمنية, فهذه الذرائع بحسب وزير الدفاع السابق روبيرت غيتس تتراوح بين ما سماه « طمأنة حلفاء أميركا وإشعار إيران بأنها لن تترك المنطقة» وبين «حاجة العراق إلى المساعدة في العديد من المجالات العسكرية منها العمل الاستخباراتي والدفاع الجوي» وكأن هذا المسعى موظف لخدمة المنطقة ولا صلة له لا بمصالح أميركية صرفة ولا بمصالح إسرائيل القائمة على إضعاف العرب و تهديد أمنهم القومي والأمن الإقليمي..!!
وعندما لم تجد الولايات المتحدة الاستجابة المطلوبة من العراق لطلبها أمام رفض العديد من الكتل السياسية له وتلويح بعضها باعتماد خيار المقاومة ضد القوات الأميركية في حال بقائها بعد موعد الانسحاب,لم يتردد رئيس مجلس النواب الأميركي جون بيتر في كشف المستور حول هذه المسألة حين دعا صراحة إلى «إبقاء قوة أميركية صغيرة في العراق بعد نهاية العام الحالي في حال لم يطلب العراق تمديد بقاء القوات» لتظهر حقيقة أن الولايات المتحدة بصدد التراجع عن التزاماتها القانونية التي تفرضها عليها الاتفاقية الأمنية, وأن اهتمامها المركزي الآن يتمحور حول البقاء في العراق بموافقته تحت الضغط أو رغماً عنه بالاستناد إلى واقع الوجود العسكري الأميركي الراهن فيه,والتهرب من لحظة استحقاق سحبه بمسوغات وأكاذيب لن تجد عناء في توفيرها على شاكلة قرار الحرب قبل ثماني سنوات ومسوغاته التي وفرتها بأكاذيب أسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع القاعدة وتهديد الاستقرار الإقليمي ونشر الحرية والديمقراطية في العراق وجعله انموذجاً للشرق الأوسط الجديد،والمسوغات الجديدة لن تخرج عن حجج استكمال مساعدة العراق في توفير أمنه واستقراره,ومواجهة التهديد أو ما تسميه بالخطر الإيراني في الشرق الأوسط,والحفاظ على المصالح الحيوية لها وللغرب في المنطقة.
وبعيداً عن التضليل السياسي الذي تمارسه الولايات المتحدة حول مسعاها لمد أمد بقائها العسكري غير المبرر في العراق,والحجج التي تطرحها لجعله مقبولاً من العراق ومحط توافق من بعض دول الإقليم وتقوم على الزعم بأن الهدف منه هو طمأنة الحلفاء و إشعار إيران ببقائها في المنطقة,بعيداً عن هذا الدجل السياسي الفاضح وتوظيفه في تبرير الوجود العسكري الأميركي,فإن الإصرار الأميركي على البقاء رمزياً بقوة صغيرة أو على نطاق واسع ينبع من أبعاد استراتيجية,لاتكشفها فقط حقيقة أن أميركا ليست قوة حماية تطوعية تتحرك في العالم بدوافع إنسانية محضة,بل تكشفها أيضاً حقيقة أن المنطقة بحد ذاتها منطقة توضع مصالح استراتيجية تمتلك أميركا النصيب الأكبر منها,ما يدفعها إلى التواجد الميداني فيها والضغط لتجسيده بتمديد وجودها حتى في ظل الاتفاقية التي تحدد نهايته أواخر العام,وأهم هذه الأبعاد هو:
1- منع العراق من تجاوز نتائج الحرب وتأثيراتها السياسية المدمرة على وضعه الجيوسياسي, فانتهاء الحرب وانسحاب الاحتلال يعنيان شيئا واحداً هو أن العراق سيكون في مرحلة استحقاقات تاريخية تجمع عليها مختلف قواه الوطنية والقومية الحرة, وأهمها على الإطلاق العودة به إلى وحدته التاريخية سياسياً ووطنياً واستعادة دوره العربي والإقليمي بما يتناسب مع موقعه الجغرافي وامكاناته المادية ونزوع شعبه للاستقلال والحرية.
وإدراكا من الولايات المتحدة لمخاطر استعادة العراق لوحدته ودوره التاريخي على مصالحها ومصالح إسرائيل التي كانت المحرك الأساسي لغزوه, كانت فكرة التمديد وسيلتها المتبقية للحيلولة دون بلوغ العراق استحقاقات ما بعد الحرب,ولضمان خروجها من الحرب بنتائج سياسية ليس أقلها الإبقاء على العراق مقسماً ومنقسماً ونهباً للاختلاف الداخلي حول شكل الحكم والنظام السياسي والهوية والانتماء والدور.
2- جعل العراق بأرضه ومياهه وأجوائه منصة تهديد لدول بعينها في المنطقة وتحديداً الدول التي ترفض كل أشكال التدخل الخارجي والوجود الأجنبي في المنطقة وتعتبره سبباً دائماً لزعزعة استقرار المنطقة ومنع تقدمها ونهب مواردها وإثارة الخلافات بين دولها.
وما يغري أميركا للسعي وراء هذا الهدف, هو وقوع العراق على خطوط التماس مع إيران وقربه جغرافياً من مركز المنطقة والصراع العربي- الإسرائيلي, وما يمكن ان يشكله من عمق استراتيجي لدول الطوق المحيطة بإسرائيل وخصوصا سورية, في حال تمكن من استعادة وحدته ودوره, إذ أن بقاء القوات الأميركية في العراق سيمكن الولايات المتحدة من ممارسة التهديد المباشر لجواره الإقليمي ومحاولة فرض السياسات التي تخدم المصالح الغربية والأمن الإسرائيلي.
3- والأخطر في هذه الأبعاد هو احتمال أن يكون التمديد وسيلة لإبقاء القوات الأميركية على مقربة من إيران وفي حالة تأهب بما يمكًن من خوض أي حرب محتملة ضد إيران قد تبادر إليها أميركا أو تدفع إسرائيل للقيام بها من أجل كبح جماع التحدي الإيراني المتفاقم للوجود الأميركي والعدوانية الإسرائيلة, والمتمثل في تمسك إيران بملفها النووي السلمي ودعمها المستمر للقضية الفلسطينية وخيار المقاومة, فمثل هذه الحرب المحتملة تحتاج لتنفيذها وتحقيق أفضل النتائج فيها إلى قرب جغرافي يوفره العراق حالياً بحكم الوجود العسكري الأميركي المباشر فيه.
وإذا كان ذلك كله يعني مصادرة استقلال العراق وتحويله إلى رأس جسر لتدخل عسكري أوسع ومنطلق تهديد للعرب و دول المنطقة, فواجب ضمان استقلال العراق و حماية الأمن القومي و الإقليمي يفرض على دول المنطقة قاطبة رفض التمديد والعمل بصورة دائمة على إنهاء أي شكل للوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط.واااا
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.