الموقف الأميركي المتوتر وشديد العدائية ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة وفي المؤسسات الدولية تجاوز كل التوقعات، فواشنطن هي التي قادت وتقود المعركة نيابة عن تل أبيب ضد الفلسطينيين من أروقة الأمم المتحدة إلى ردهات اليونيسكو. نفهم أن اللوبيات اليهودية المسيطرة على دوائر صنع القرار الأميركي تحرك الخيوط بهذا الاتجاه وبشكل شبه أعمى تزايد فيه على بعضها بعضاً. ولكن ما لا نفهمه هو تردي السياسة الأميركية نحو مسارات تضرب قلب المصالح الأميركية وتعيد تدوير عقارب العداء للولايات المتحدة إلى الوراء. وكانت أميركا أوباما قد غيرت جزئيّاً، ولو إعلاميّاً، صورة أميركا بوش الابن -أميركا الحربية والمُطلقة للحروب في العالم، أميركا رجل “الكاوبوي”. وقد تمكن أوباما، الذي سرعان ما تغير خطابه أيضاً، خلال السنة الأولى من ولايته من تحسين صورة أميركا. واستطاع في عالم العرب والمسلمين رفع سقف الطموحات إلى الحد الأقصى عبر خطابيه في إسطنبول والقاهرة. وخلال الثورات العربية قامر بالتخلي السريع عن حلفاء السياسة الأميركية والتابعين لها في المنطقة العربية مثل الرئيسين المخلوعين مبارك وبن علي. وبسبب سياسة التخلي تلك تمكنت الولايات المتحدة من اكتساب رصيد إيجابي ولو نسبي ومتدرج، ودفعت بشرائح من الرأي العام العربي من موقع العداء والرفض المطلق لها إلى موقع وسطي ورمادي. ولم تتغير صورة الولايات المتحدة كليّاً لأن التاريخ الطويل لسياستها في المنطقة يشوبه السواد ويحتاج إلى فترات طويلة من السياسات المتغيرة والجديدة المختلفة. ولكن تزحزحت تلك الصورة أو كادت، على كل حال.
بيد أن القليل الذي كسبته واشنطن من وقوفها إلى جانب عدد من الثورات العربية سرعان ما خسرته وما تزال تخسره وتخسر ما هو أكبر منه على الجبهة الفلسطينية. فهنا لا تظهر أميركا المؤيدة لإسرائيل فحسب، فهذا التأييد صار وكأنه من أبجديات السياسة الدولية، ولكن تظهر أميركا يمينية، التي تزايد على كثير من الإسرائيليين. في إسرائيل أصدر أكثر من حوالي خمسمائة مثقف وسياسي بياناً دعوا فيه تل أبيب إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتأييدها لأن ذلك الاعتراف هو جانب من البداية الحقيقية لحل الدولتين ولا مناص منه. ومثل هذا البيان لم يصدر في الولايات المتحدة التي يقودها كونجرس موغل في يمينيته إلى حد الانتحار السياسي. ولن تستطيع الولايات المتحدة تغيير صورتها في المنطقة وعند العرب والمسلمين وهي تتبنى سياسة يمينية أكثر من تل أبيب نفسها.
وأهم جانب من السياسة الأميركية المتصهينة هذه الأيام هو التهديد بقطع المساعدات السنوية عن السلطة الفلسطينية التي ربما تصل في مجموعها العام إلى نصف مليار دولار. وهذا التهديد جدي ويمكن أن يلوي ذراع الفلسطينيين ويحبط مساعيهم. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، وتنفيذ التهديد بقطع المساعدات معناه إيغال إضافي من قبل الولايات المتحدة في وقوفها ضد الفلسطينيين، واستدعاء جديد لكراهيات إضافية من قبل العرب والمسلمين، وهو ما يقلق كثيراً من الساسة الأميركيين. وحتى استخدام “الفيتو” ضد الفلسطينيين سيترتب عليه تردٍّ إضافي في صورة الولايات المتحدة وهو ما يجعلها تزداد توتراً. والجانب الآخر المرتبط بالتهديد بقطع المساعدات يخص فقدان التأثير على الفلسطينيين، لأن المساعدات المالية معناها توفر إمكانية كبيرة لممارسة الضغط عليهم. وبهذا فإن المساعدات لم تكن في يوم من الأيام هِبة خالصة، بل آلية ضغط هدفها تسهيل تنفيذ السياسات. ونموذج “المعونة الأميركية” لمصر مفيد هنا وفيه دروس عديدة. ففي السنوات الأخيرة، وحتى قبل سقوط النظام، اتجهت مصر نحو إنهاء هذه المعونة التي صارت تستخدم لرهن السيادة والتدخل في الشؤون الداخلية، فضلاً عن أن معظمها يذهب للإنفاق على مئات الموظفين التابعين لـ”هيئة المعونة” واستشارييها وسوى ذلك. وعندما وصلت القاهرة إلى قناعة بأن ضرر المعونة أكثر من منفعتها وطلبت إيقافها رفضت واشنطن إيقافها، وهو موقف غريب بطبيعة الحال. ولكن التفسير الوحيد له هو أن تلك المعونة تخدم الولايات المتحدة أكثر مما تخدم مصر بحكم كونها آلية ضغط سياسي إن فقدتها واشنطن فإنها تفقد أهم أدواتها المؤثرة في علاقاتها الثنائية مع القاهرة. ومنطق المساعدة الأميركية للسلطة الفلسطينية يقع في المربع نفسه، أي كونها آلية ضغط سياسي.
ومن هنا، يجب على الفلسطينيين وضع مسألة التخلي عن المساعدة الأميركية هدفاً استراتيجيّاً حيويّاً في المرحلة الحالية. وهناك مناخات إقليمية جديدة تساعد في تحقيق هذا الهدف. جزء من هذه المناخات الموقف الخليجي وخاصة السعودي القوي المؤيد لعضوية فلسطين في الأمم المتحدة الذي عبر عنه الأمير تركي الفيصل في مقالين نشرتهما الصحف الأميركية مؤخراً. وجزء آخر يتمثل في الموقف التركي الصاعد والقوي المؤيد أيضاً للفلسطينيين، إضافة إلى الموقف المصري بطبيعة الحال. وعلى السلطة الفلسطينية أن تكثف جهودها مع هذه الأطراف الثلاثة لتحقيق هدفين. الأول صياغة موقف أو حتى بيان ثلاثي: مصري، خليجي، تركي، يعلن التأييد والدعم للفلسطينيين ويكون هدفه حماية ظهر الفلسطينيين دبلوماسيّاً وسياسيّاً في مواجهة الضغط الأميركي والأوروبي. والهدف الثاني، وهو الأهم، تأمين دعم خليجي- تركي مشترك على شكل معونة سنوية للفلسطينيين لا تقل عن نصف مليار دولار تعوض المساعدات الأميركية. وقد صرحت تركيا أكثر من مرة أنها على استعداد لتعويض المساعدات الأميركية في حال توقفت ويمكن البناء على ذلك. ولكن الوصول إلى هذا الهدف يحتاج، مرة أخرى، إلى تكثيف الجهود الرسمية والشعبية الفلسطينية على هذه الجبهة.
وذلك كله لا يعني قطع الخطوط مع الولايات المتحدة، إذ ليس في مقدور الفلسطينيين الذهاب إلى آخر الشوط في هذه المسألة فضلًا عن أن صداماً مباشراً وعلى كل الجبهات مع واشنطن لن يصب في مصلحتهم. ولكن شل يد الضغط الأميركي، وإضعاف آليات السيطرة والتحكم على الفلسطينيين وقرارهم، هدفان مشروعان وسياستان لابد من تبنيهما.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.