حققت “الماكينة الدبلوماسية” الروسية إنجازين مهمين، يمكن وصفهما بـ”الاختراق” على ساحة العمل السياسي الدولي المتركّز حول الأزمة السورية…الأول، يتلخص في نتائج أول جولة خارجية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد عودته للكرملين، حيث نجح بكسب تأييد المستشارة الألمانية أنجيلا ميريكل لخيار “الحل السياسي” للأزمة السورية، موسعاً بذلك الشرخ القائم في الموقفين الفرنسي والألماني، حيث تميل باريس لتبني خيارات أكثر تشدداً وصرامة، بل وتجنح للأخذ بسيناريو “الجراحة العسكرية” للأزمة السورية.
أما الإنجاز الثاني، والأكثر أهمية بكل المعاني والمقاييس، فهو التأسيس لشراكة أمريكية – روسية في تناول الملف السوري، بعد أن بات شبه المؤكد أن واشنطن وموسكو قررتا العمل سويةً على هذا الملف، وأن طواقماً تعمل على وضع تصورات مشتركة كما كشفت عن ذلك مصادر أمريكية…وسط تطور مفاجئ في مواقف السيدة هيلاري كلينتون التي لم تعد ترى في “تنحي الأسد” شرطاً لبدء الحل السياسي للأزمة، بل نتيجة لهذا الحل، وتأكيد روسي متكرر على أن موسكو لا تدعم نظام الأسد، ولكنها تعمل من أجل منع انزلاق سوريا إلى أتون الفوضى والحرب الأهلية التي حذر بوتين من أنها تطل برأسها.
لكن المفارقة “الصادمة” تأتي من دمشق هذه المرة…ففي الوقت الذي تتجه فيه عواصم القرار الدولي للاقتراب أكثر فأكثر من وجهة نظر حليف سوريا الرئيس على الساحة الدولية…تصدر عن الرئيس السوري في أول خطاب له منذ أزيد من نصف عام، تصريحات يقول فيها لا حل سياسياً للأزمة السورية، لأن الأزمة بالأساس ليست سياسية ولا داخلية، بل هي حرب على سوريا ومشروع فتنة و”تدخل دولي” وعصابات إرهابية…هكذا ببساطة، يُختزل المشهد السوري برمته، على أنه حرب الإرهاب على سوريا، وحرب سوريا على الإرهاب…إنه حقاً خطاب مُخيب للآمال، ويعكس “انفصال” النظام عن واقع الأزمة في بلاده، وإصراره على المضي في خياره الأمني العسكري “مهما كان الثمن”، ومهما سال من دماء من جسم المريض على أيدي الطبيب الجرّاح ؟!
والمؤسف حقاً، أن الرئيس السوري، بدا في خطابه “مقتنعاً” بأن ما يتخذه من إجراءات “هزلية” و”شكلية” كتعديل الدستور وإجراء انتخابات تشريعية من طراز “ما قبل الربيع العربي” وإصدار قانون هزيل للأحزاب، هي “ذروة سنام” عملية الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي التي يطالب بها الشعب السوري ويتطلع إليها، وقدم من أجلها ألوف الشهداء وأضعاف أضعافهم من الجرحى والمعتقلين والمشردين في وطنهم وفي الشتات القريب والبعيد…المؤسف والمُفجع أن الرئيس الأسد، وبعد أزيد من عشرة آلاف قتيل، يعود لتذكرينا بمطالب الثورة السورية في إيامها الأولى، من نوع تعديل المادة الثامنة من الدستور وإصدار قانون جديد للأحزاب السياسية، من دون أن تصدر عنه إشارة واحدة تفيد بأنه تأخّر كثيراً في الاستجابة لنداءات الثورة السلمية قبل أن تتحول إلى “السلاح”، وأن ما يعرضه اليوم تلخصه العبارة التي قيلت في سياقات الثورات العربية في مصر وتونس وليبيا من قبل: Too Little Too Late””.
والراهن أن خطاب الرئيس السوري أمام مجلس الشعب، قد سجّل أكثر من خطوة واحدة للوراء في توصيف النظام للأزمة وتعاملها معه…فالخطاب إذ ينكر وجود أساس سياسي – داخلي للأزمة السورية، ويرفض – استتباعاً – حلها سياسياً، يتنكر لمبادرة كوفي عنان شكلاً ومضموناً، ويتنصل من التزاماته ببنودها الست، السياسية بامتياز…والنظام الذي طالما اتهم المسلحين والإرهابيين بتلقي المال والسلاح من الخارج، يوسع اليوم دائرة اتهاماته للمتظاهرين السلميين، الذي يخرجون للشارع لقاء 2000 ليرة سورية، فتكون النتيجة أن لا أحد في سوريا ينتمي للمعارضة، وأن المعارضيين سلميين أكانوا أم مسلحين، هم عملاء ومأجورون، يعملون بنظام القطعة والمياومة لدى الجهات التي يتهمها النظام بالتدخل ودعم الإرهاب وزرع الفتنة واستهداف سوريا الدولة والوطن…ومع ذلك، ما زال النظام يتحدث عن “حوار وطني” و”أبواب مفتوحة” إلى غير ما هنالك من شعارات لم يعد أحد يأخذها على محمل الجد.
من المفروض بالتحليل المنطقي، أن يكون النظام “سعيداً” بنجاحات حليفه الروسي على الساحة الدولية، وأن يقدم من المواقف والممارسات، ما تساعد سيّد الكرملين على جبه أوسع تحالف دولي ضد النظام في دمشق…لكن ما نراه على الأرض، وما نسمعه من مواقف وتصريحات، توحي بخلاف ذلك، بل وتذهب في الاتجاه المعاكس…فهل فقد النظام صلته بما يجري من حوله وأمام ناظريه ومن تحت أقدامه…أم أن النظام يخشى “التوافق الدولي” على الحل السياسي للأزمة السورية، بقدر خشيته من “سيناريو التدخل العسكري” وربما أكثر؟…هل تشعر دمشق بالارتياح للتقارب الروسي – الأمريكي، أم أنها تخشى خسارة هوامش المناورة بين القطبين الدوليين؟…كيف تقرأ دمشق إرهاصات التقارب الأمريكي الروسي الأخيرة؟…وهل تُدرجها في سياق “المكاسب” و”النجاحات” وتنظر إليها بوصفها “فرصة” للخروج من الاستعصاء، أم أنها ترى فيها ملامح “تحدٍ” جديدة، ونّذر ضغوط قادمة وإرهاصات لاستحقاقات سياسية لطالما سعت في تفاديها؟ّ!
أسئلة وتساؤلات قد تبدو غريبة في شكلها، لكنها واقعية جداً في مضمونها، خصوصاً إذا تأكد للنظام أن فاتورة هذا التوافق، ستكون ثقيلة جداً عليه….وأنه لن يقوى في المرات القادمة على الإفلات من شقوق الخلاف الدولي وثقوبه، بعد أن يصبح حليفه الأفعل و”صديقه الصدوق” ضامناً لحسن تنفيذ التزامات “التوافق” واستحقاقاته، ومشرفاً على سلامة ترجمتها ميدانياً وعلى الأرض.
التاريخ : 05-06-
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.