كان انخراط الولايات المتحدة في الحرب الفيتنامية، خلال ستينيات القرن الماضي، والخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش الأميركي في الأرواح والعتاد، الموضوع الرئيسي للنقاش خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 1968. ولعل تبني ريتشارد نيكسون موقفاً يُقلل من تورط الولايات المتحدة في تلك الحرب هو أحد أسباب فوزه يومها. وخلال النصف الثاني من العام الأول من ولايته، 1969، حدد نيكسون في عدد من الخطابات ملامح التغييرات المقبلة في السياسة الخارجية الأميركية؛ شكلت هذه التغييرات ما عُرف بـ «عقيدة نيكسون»، وهي العقيدة التي غيّرت من طبيعة علاقة الولايات المتحدة بحلفائها في العالم، لا سيما في جنوب شرق آسيا. فبينما تعهد بأن الولايات المتحدة ستحمي حلفاءها في وجه التهديدات العسكرية، حتى لو اضطرت إلى استخدام المظلة النووية، شجع نيكسون هؤلاء الحلفاء على تحمل عبء الحرب بشكل أكبر. تسارعت بعد ذلك خطوات الولايات المتحدة لتقليل مستوى تورطها المباشر في الحرب الفيتنامية، وتقليل حضورها في كامل جنوب شرق آسيا. بالمحصلة انتهت الحرب الفيتنامية لمصلحة الشيوعيين الذين تدخلت الولايات المتحدة أساساً لمنع توسعهم في جنوب شرق آسيا، وأسست في سبيل ذلك في العام 1954 منظمة «حلف جنوب شرق آسيا» «سياتو» (بفضل عقيدة نيكسون لم يعد هناك من مبرر لوجود هذه المنظمة فحلت نفسها في العام 1977).
في السنوات التالية، عززت الولايات المتحدة حضورها، تعزيزا غير مسبوق، في بقعةٍ أخرى من العالم، الشرق الأوسط، وذلك لأسباب كثيرة، على رأسها تأمين منابع وخطوط نقل الطاقة الحيوية لاقتصاد الولايات المتحدة. تصاعد مستوى الوجود الأميركي تصاعدا ملحوظا، لا سيما خلال سنوات الحرب العراقية – الإيرانية، ثم «عاصفة الصحراء» وعمليات حظر الطيران فوق العراق طوال التسعينيات، وغزو أفغانستان، وصولاً إلى غزو العراق نفسه في العام 2003 واحتلاله لثماني سنوات. كلف هذا الانخراط المباشر الولايات المتحدة تريليونات الدولارات من دون دليل دامغ بأن الولايات المتحدة قد أنجزت أهدافها. وهذا ما أطلق نقاشاً عميقاً في واشنطن حول الجدوى من استمرار الانخراط الأميركي بهذا المستوى في الشرق الأوسط، لا سيما في أعقاب الأزمة المالية الأميركية وبروز الحاجة لتعزيز الوجود الأميركي في مناطق أخرى من العالم.
إعادة التوازن إلى جنوب شرق آسيا
الآن مع اقتراب ولاية باراك أوباما من نهايتها، يمكن لنا القيام بمراجعة شاملة لملامح ما عُرف «بعقيدة أوباما»، التي تمثل حزمةً واسعةً من التغييرات في السياسة الخارجية الأميركية للتعامل مع عدد من القضايا. يمكن لنا الحديث عن قضيتين رئيسيتين، مرتبطتين بعضهما ببعض مباشرة. القضية الأولى هي استشعار الولايات المتحدة أن الجزء الأكبر من أحداث العقود المقبلة الاقتصادية والسياسية سيُحدد في جنوب شرق آسيا، ولذلك فلا بد من تعزيز حضور الولايات المتحدة في هذه المنطقة الحساسة، لا سيما مع التنامي المتسارع لقدرات الصين وحضورها في المنطقة. القضية الثانية هي إدراك الولايات المتحدة عدم قدرتها على الاستمرار بتحمل أعباء وجودها في الشرق الأوسط بالمستويات نفسها للعقد الأول من هذه الألفية، خصوصاً مع بروز الحاجة لتعزيز الوجود الأميركي في جنوب شرق آسيا. خرجت الإدارة الأميركية بعلاج واحد للقضيتين: نقل الثقل الأميركي من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا أو «إعادة التوازن» كما عُرف في أدبيات الخارجية الأميركية، يعتمد على تشجيع حلفاء أميركا في الشرق الأوسط على التحرك ولعب دور إقليمي أكبر بدل الاتكال على الولايات المتحدة، فيما تستخدم الولايات المتحدة الموارد المتحررة من الشرق الأوسط، لا سيما العسكرية منها، في تعزيز وجودها في جنوب شرق آسيا، وخصوصاً في وجه الصين.
صعود الصين
لا يمكن وصف مسار صعود الصين خلال السنوات التالية سوى بالصعود الصاروخي، وهو صعود حصل في غفلة من الولايات المتحدة. فمع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، اعتقدت واشنطن أن الشيوعية في العالم قد انتهت وأن الحكم الشيوعي الصيني سيلحق عاجلاً أم آجلاً بنظيره السوفياتي. وخلال العقد التالي لنهاية الحرب الباردة تعاملت واشنطن مع بكين على أنها أكبر بقليل من قوة إقليمية يمكن ضبط إيقاعها بوسائل مختلفة: الترغيب بالمزيد من التعاون الاقتصادي ودعم الصين لتدخل «منظمة التجارة العالمية»، في 2001، والترهيب عبر دعم القدرات العسكرية لخصوم الصين، اليابان وتايوان، وربما أيضاً بتوجيه رسائل خشنة، قد تكون من بينها غارة مدمرة بالقنابل الذكية استهدفت «عن طريق الخطأ» السفارة الصينية في بلغراد في أيار 1999. في مطلع هذه الألفية، لم يكن بحوزة الصين، بحسب التقديرات الأميركية، سوى حوالي عشرين صاروخاً نووياً يمكن أن يصل مداها إلى قلب الولايات المتحدة، بالإضافة إلى غواصة واحدة فقط مزودة بدزينة من الصواريخ النووية المتوسطة المدى، فيما لم يتجاوز عدد التجارب النووية الصينية نسبة 5 في المئة من نظيرتها الأميركية. لكن قدرات الصين تطورت تطورا هائلا خلال السنوات الخمس عشرة التالية.
شجع تطور القدرات العسكرية والاقتصادية بكين على التحرك ورفع مستوى المطالبة بما تعتبره حقاً لها. وإحدى أبرز هذه القضايا هي قضية بحر الصين الجنوبي الذي تزعم الصين منذ العام 1947 أنها تمتلك معظم الجزء المهم فيه.
ولكن باستثناء طباعة خرائط تضع تلك الجزر ضمن حدود الصين، لم تقم الصين خلال العقود التالية بأي خطوة ملموسة ذات معنى تؤكد تبعية تلك المناطق لها. خلال السنوات القليلة الماضية، ومع بدء الولايات المتحدة «إعادة التوازن» إلى جنوب شرق آسيا، زادت الصين من انتشارها العسكري في بحر الصين الجنوبي، بما في ذلك إقامة عدد من الجزر الصناعية وتحويلها إلى قواعد عسكرية صينية لتأكيد الوجود الصيني في تلك المنطقة الحساسة، التي لا تشكل فقط معبراً مهماً للتجارة الدولية، بل يقدر وجود احتياطيات طبيعية هائلة في بعض الجزر المتنازع عليها.
وبرغم أن الولايات المتحدة عملت خلال السنوات الماضية على تطوير علاقاتها مع خصوم الصين في قضية بحر الصين الجنوبي، بما في ذلك بدء تعاون متسارع وغير مسبوق بين الولايات المتحدة وخصمها الأشهر في تلك المنطقة، فيتنام، إلا أن الصين تتابع التحرك بسرعة تفوق قدرة الولايات المتحدة على الرد، على الأقل في الوقت الحالي. ففي هذا الصيف رفضت الصين قرار المحكمة الدولية التي حكمت بأن الصين خرقت سيادة الفيليبين في بحر الصين الجنوبي. وحققت الصين مفاجأةً كبرى مؤخراً عندما بدأ الرئيس الفيليبيني الجديد، رودريغو دوتيرتي، حملةً معاديةً للولايات المتحدة وصلت ذروتها هذا الأسبوع، عندما أعلن دوتيرتي من بكين انفصاله عن الولايات المتحدة، لتكون تلك البداية الفعلية لنقل الفيليبين تحالفها الاستراتيجي من الولايات المتحدة إلى الصين. هذه، بكل المعايير، انتكاسةٌ كبرى للولايات المتحدة ولمحاولتها تعزيز وجودها في جنوب شرق آسيا.
الصين تنتقل إلى سوريا
لكن لا يبدو أن الصين ستتوقف عن توجيه الضربات للولايات المتحدة. فالضربة الحقيقية الكبرى للصين ستكون عبر تقويض الأساس الذي بنى عليه أوباما تصوره لمواجهة النفوذ الصيني: تقليل الوجود الأميركي في الشرق الأوسط لتوفير موارد كافية لإعادة التوازن إلى جنوب شرق آسيا. فقد تواترت الأنباء حول تعزيز الصين وجودها البحري العسكري في شرق المتوسط، سواء عبر إرسال بعض أحدث قطع البحرية الصينية إلى الساحل السوري، مروراً بالأنباء غير المؤكدة حول إرسال حاملة الطائرات الصينية الوحيدة «لياونينغ»، وطلب الصين تخصيص قاعدة بحرية لها في سوريا. للصين بالطبع دوافعها للحضور في سوريا والمشاركة في محاربة الإرهاب، لا سيما مع مشاركة الآلاف من الإيغور الصينيين في القتال في سوريا تحت راية تنظيم «داعش» وغيره، والذين سيشكلون خطراً كبيراً على استقرار الصين في حال مغادرتهم سوريا. إلا أنه من المرجح أن الصين تدرك أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وفي حالتنا هذه خير وسيلة للدفاع في وجه الوجود الأميركي في جنوب شرق آسيا هو الضغط على الولايات المتحدة في مناطق أخرى من العالم، خصوصاً الشرق الأوسط الذي كانت الولايات المتحدة قد ناءت تحت عبء وجودها فيه. من المبكر الجزم حول سرعة بناء الصين وجودها في سوريا، خصوصاً أن الصين لا تزال تعتمد سياسة التكتم الصارم، ولكن تحول سوريا إلى ميدان مواجهة عالمي بين روسيا، من جانب، والولايات المتحدة و «حلف الأطلسي»، من جانب آخر، يشجع الصين على التحرك ومنافسة الولايات المتحدة في عرينها، في الشرق الأوسط.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.