بايدن والاقتصاد العالمي
المعركة الدائرة حول أجندة «بايدن» الاقتصادية ذات أبعاد عالمية. فهى فى جوهرها معركة
ضد أسس النظام الاقتصادى العالمى الراهن بكل تشوهاته التى تضر بالأغلبية الساحقة من سكان العالم.
فـ«بايدن»، الذى ظل طوال حياته يمثل يمين الوسط فى حزبه، يتبنى اليوم سياسات اقتصادية أقرب للتيار التقدمى. وهو موقف سياسى لا يمثل، فى تقديرى، اختيارًا تقدميًا للرئيس الأمريكى، وإنما موقف فرضه عليه فرضًا الواقع الاقتصادى فى بلاده.
فقد تسلم «بايدن» الرئاسة فى أسوأ مراحل تفشى وباء كورونا فى بلاده. وهى لم تكن مجرد أزمة صحية راح ضحيتها مئات الآلاف وأضرت بسمعة أمريكا دوليًا، وإنما أزمة اقتصادية أيضًا لا تقل خطورة، حيث أدت لفقدان الملايين وظائفهم أو مقدراتهم الاقتصادية عمومًا. وهو الأمر الذى كان يتطلب تدخلًا حكوميًا قويًا. وقد تسلم «بايدن» الرئاسة وسط مرحلة جديدة من مراحل أفول الإمبراطورية الأمريكية. فمثلها مثل إمبراطوريات سابقة، ظل التمدد الخارجى المفرط للإمبراطورية الأمريكية أكبر بكثير من قدرتها على تحمل تكلفته الباهظة، فتأثر الداخل الأمريكى بقوة.
ففى الوقت الذى كانت فيه منخرطة خارجيًا فى عمليات لـ«بناء الدولة» فى أكثر من بلد بالعالم كانت البنية التحتية الأمريكية فى الداخل تزداد ترديًا، بما يؤثر على قدرة أمريكا التنافسية على الصعيد الاقتصادى الدولى. وقد أدى ذلك كله لتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، التى كانت موجودة أصلًا، وصارت الفجوة فى مستويات الدخل والمعيشة هائلة، خصوصًا مع الخفض الضريبى المذهل فى عهد ترامب، والذى لم يستفد منه سوى الشركات العملاقة والأمريكيين الأكثر ثراء. وكأن ذلك لم يكن كافيًا، فقد ازدادت وتيرة تعرض الولايات المتحدة للكوارث الطبيعية الناجمة عن كارثة المناخ العالمية.
ومن هنا، فرض الواقع نفسه فرضًا على الرئيس الجديد. فقد تحتم على الدولة أن تلعب دورًا قويًا فى الاقتصاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بدءًا من تقديم إعانات للبطالة على أوسع نطاق، ووقف طرد من يعجزون عن دفع أقساط منازلهم، والسعى لإيجاد وظائف جديدة، فضلًا عن تحديث البنية التحتية والانسحاب دوليًا ثم توجيه المزيد من الإنفاق للخدمات العامة والبرامج الاجتماعية، وإيجاد البدائل الواقعية لتحويل الاقتصاد الأمريكى نحو الطاقة البديلة، والسعى الحثيث لمواجهة مخاطر التحولات المناخية. وقد مثلت تلك البنود جوهر أجندة «بايدن» التشريعية التى أطلق عليها «البناء بشكل أفضل». فهى تتضمن ميزانية فيدرالية جديدة تعكس تلك الأولويات، فضلًا عن مشروع قانون لإصلاح البنية التحتية. وهى الأجندة التى تواجه اليوم مقاومة شرسة ليس فقط من جانب الجمهوريين بالكونجرس وإنما من جناح يمين الوسط فى الحزب الديمقراطى، حزب «بايدن».
وتلك المقاومة، فى تقديرى، هى مقاومة لأى نوع من التراجع عن هيكل الاقتصاد النيوليبرالى الذى يقوم فى جوهره على إطلاق يد السوق دون قيد أو شرط، وتقليص دور الدولة فى دعم البرامج الاجتماعية التى تستفيد منها الأغلبية الساحقة من الطبقات الوسطى والدنيا. وهو النظام الاقتصادى الذى بدأ، أمريكيًا وبريطانيًا، فى الثمانينيات حين تزامن عهد رونالد ريجان مع عهد مارجريت تاتشر. ثم صار ذلك النظام هو النظام الاقتصادى العالمى طوال الأربعين عامًا الأخيرة.
ولايزال «بايدن»، حتى الآن، متمسكًا بتلك الأجندة، رغم استعداده لتقليص حجم البرامج الاجتماعية، لا التخلى عنها بالكامل. وستكشف الأسابيع القليلة القادمة ما إذا كان الرئيس سيقدم تنازلات أكثر عمقًا، فتنتهى المعركة إلى تبنى مسكنات قصيرة الأجل لأزمة جوهرية، أم ستمثل سياسات إدارته أهم التحديات الحقيقية لنظام اقتصادى عالمى ظالم؟
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.